21-مارس-2020

استمرت أسعار النفط في الانخفاض الحاد (Getty)

لا تزال الأسئلة تُطرح بشأن حرب أسعار النفط السعودية الروسية، مع معدلات الإنتاج المرتفعة، التي تسببت بانخفاض حاد في الأسعار. لكن كيف تنتهي تلك المغامرة المشتركة بين الرياض وموسكو؟ وأين ستصل؟ يحاول التقرير أدناه، المترجم عن صحيفة فورين بوليسي الأمريكية، الإجابة على تلك الأسئلة.


تراهن كل من روسيا والسعودية، وهما من أكبر منتجي النفط في العالم، على أن كل واحدة أفضل من الأخرى في تحمل تكلفة حرب أسعار البترول التي اندلعت بينهما، وتعتقد كل منهما أنها ستصل إلى النتيجة التي ترغب بها. يقودنا هذا الوضع إلى سؤالين أساسيين: هل هما قادرتان على تحمل الألم؟ وما الذي تريدانه بالتحديد؟

لا تزال الأسئلة تُطرح بشأن حرب النفط السعودية الروسية، مع معدلات الإنتاج المرتفعة، التي تسببت بانخفاض حاد في الأسعار. لكن كيف تنتهي تلك المغامرة المشتركة بين الرياض وموسكو؟

أثناء اجتماع السعودية والدول الكبرى الأخرى المنضوية تحت منظمة أوبك وروسيا في فيينا للتخطيط لخفض الإنتاج للتحكم في انخفاض الأسعار الناتج عن انتشار فيروس كورونا، كان سعر برميل النفط الخام حينها أكثر من 50 دولارًا. حينها قررت روسيًا التراجع عن اتفاقية عمرها ثلاث سنوات للتحكم في إمدادات النفط العالمية، ورفضت التوقيع على خفض الإنتاج الذي اقترحته السعودية، مما تسبب في انخفاض حاد في أسعار البترول.

اقرأ/ي أيضًا: تباطؤ النمو الاقتصادي في السعودية.. "رؤية 2030" في مهب رياح الواقع

لم ترد الرياض بخفض أحادي للإنتاج، بل سارت في الاتجاه المعاكس: فقد خفضت أسعار النفط وأعلنت لاحقًا عن خطط للتوسع في الإنتاج، مما ساهم أكثر في انخفاض الأسعار التي عانت بسبب الوباء وتأثيره على الاقتصاد العالمي.

بالنسبة لروسيا والمملكة العربية السعودية، اللتين تعتمدان بشكل أو آخر على النفط في تمويل ميزانياتها القومية، تعد هذا لعبة خطرة.

اعتقدت روسيا أن بإمكانها التخلي عن تعاونها غير الرسمي مع المملكة العربية السعودية ودول أوبك الأخرى، حتى لو عنى ذلك هبوط أسعار النفط، لعدة أسباب. أولها أنها ادخرت قدرًا كبيرًا من المال في السنوات الأخيرة بعد آخر موجة هبوط لأسعار النفط، مما يمنحها ظهرًا ماليًا مريحًا. ثانيًا، فإن أكبر الخاسرين من هبوط أسعار النفط بحسب التقديرات الروسية، هم منتجو النفط الصخري الأمريكيون، فانخفاض الأسعار سيحدث ضررًا اقتصاديًا للولايات المتحدة ويقوض قدرتها على استخدامها سلاحها المفضل في الهيمنة الدولية وهو سلاح العقوبات.

قالت صوفيا دونتس كبيرة الباحثين الاقتصاديين في مركز Renaissance Capital والموظفة الرفيعة السابقة في البنك المركزي الروسي، إنه "روسيا في وضع أفضل يمكنها من النجاة من هذه الأزمة. سيكون الأمر صعبًا، لكن لديهم ما يكفي من الموارد لاجتياز الأزمة".

أمضت روسيا السنوات الخمس الماضية في الادخار والتقشف في ميزانيتها وتمكنت من جمع احتياطي يقدر بـ 550 مليار دولار، سيمكنها من تحمل أسعار النفط بين 25 إلى 30 دولار لعقد كامل إذا اقتضت الحاجة، بحسب المسؤولين. في يوم الإثنين 9 مارس/آذار 2020، قال وزير المالية الروسي إنه سيسحب 150 مليار دولار من الاحتياطي لدعم الميزانية حتى لو ظلت أسعار النفط منخفضة. إذا بيع برميل النفط الخام مقابل 27 دولار، سيتوجب على روسيا سحب 20 مليار دولار كل عام لموازنة الميزانية (لكنه بلغ حتى لحظة ترجمة التقرير أقل من عشرين دولارًا).

جاءت خزينة الحرب هذه نتيجة لقرار موسكو بإعادة هيكلة الاقتصاد بعد وصولها إلى حافة الركود عام 2015، بعد العقوبات الغربية بسبب ضم شبه جزيرة القرم وقرار منظمة أوبك بزيادة الإنتاج في العام الذي سبقه. ورغم فشل جهود موسكو في تنويع الاقتصاد بعيدًا عن قطاع المحروقات، إلا أنها ركزت على الاستقرار بدلًا من النمو في الأعوام الأخيرة، وهي أفضل حالًا الآن لمواجهة الأزمة من المرة الماضية.

لكن هناك مشكلة واحدة؛ على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن ينفق المزيد. ركب بوتين موجة الازدهار النفطي في أوائل الألفية ليقود البلاد إلى تحقيق نمو اقتصادي كبير ويكتسب شعبية هائلة، لكن من الصعب الحفاظ على هذا النسق في ظل هبوط أسعار النفط. يمثل النمو الاقتصادي نقطة محورية في هذه الفترة الرئاسية لبوتين، ولأن فترته في الحكم قد تمتد على الأرجح إلى عام 2036، يجب عليه زيادة الاستثمار في البنية التحتية والإنفاق الاجتماعي لتحقيق وعوده بتحسين الظروف المعيشية المتدنية في البلاد.

 انخفاض مستويات الدخل وإجراءات التقشف كانت سببًا لانخفاض شعبيته وعاملًا أساسيًا في التغيير الحكومي الذي وقع في كانون الثاني/يناير من هذا العام والذي أطاح بديمتري ميدفيدف من رئاسة الوزراء.

قبل انهيار أسعار النفط، خططت الحكومة للاستعانة بصندوق الثروة السيادي لتمويل عدد من المشروعات المركزية في خطط النمو الخاصة بها. لكن حرب أسعار النفط قد تجبرهم على العودة إلى نقطة الصفر. 

قالت ناتاليا أورلوفا كبيرة الاقتصاديين ببنك ألفا في موسكو "إن لم نشهد توقيع اتفاقية أخرى لأوبك بلاس (OPEC+)  في منتصف الصيف، تستقر الأسعار على إثرها حول 30 دولارًا للبرميل، ستضطر روسيا للتأقلم وتعديل خططها".

ستعوض انخفاض قيمة الروبل بعض خسائر الميزانية الناتجة عن انخفاض أسعار النفط، لكن إذا ظلت الأسعار منخفضة، ستضطر الحكومة الروسية إما إلى خفض الإنفاق أو رفع الضرائب، أو كلاهما، وكلاهما لن يلقيا قبولًا سياسيًا. تقول أورلوفا: "لا يستخدم صندوق الثروة السيادي إلا في حالات الطوارئ، لذا إن ساءت الأمور سيكون عليهم التقشف في الميزانية أو زيادة الضرائب. مما يعني أن المستهلك الروسي هو من يدفع تكلفة الأزمة".

ما أرادته روسيا حين أقدمت على هذا الرهان هو قتل صناعة تعدين البترول الصخري في الولايات المتحدة مرة وللأبد. يرى إيغور سيتشين، رئيس شركة روس نفط العملاقة المملوكة للدولة وأحد المقربين لبوتين بأن جهود الحفاظ على ارتفاع أسعار النفط عبر خفض الإنتاج لم تسعف سوى صناعة إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة، القضاء على هذه الحصة السوقية كان الهدف الأول من انسحاب الكرملين من الاتفاق السعودي.

تعتقد روسيا أن أسعار النفط الرخيصة ستقود العديد من الشركات الأمريكية إلى الإفلاس أو إعادة الهيكلة، في ظل ارتفاع تكاليف الإنتاج في قطاع النفط الصخري وارتفاع حصيلة الديون. ترى روسيا في القضاء على قطاع النفط الصخري الأمريكي فائدة أخرى وهي الحد من قدرة أمريكا على إشهار سلاح العقوبات، كما فعلت ضد وحدة من "روس نفط" لإجرائها تعاملات مع فنزويلا.

نوعًا ما، روسيا محقة، فمنتجو النفط الصخري في الولايات المتحدة محملون بديون مرهقة، قد تصبح فتيلًا يفجر كل سوق الديون التجارية في الولايات المتحدة. إذا كانت روسيا تسعى لإحداث فوضى في الولايات المتحدة فهذه طريقة جيدة. لهذا دعى بعض الخبراء الحكومة لتدخل محدود للغاية، لا لإنقاذ مدراء النفط فاحشي الثراء، بل لمنح انهيار ائتماني أوسع.

قالت إيمي مايرز جيف خبيرة الطاقة في مجلس العلاقات الخارجية (Council on Foreign Relations) "إذا أردنا الحد من عمليات الإفلاس ومنع قطاع النفط الصخري من تفجير سوق الائتمان، على وزارة الخزانة الأمريكية أن تنظر في خيارات القروض طويلة الأجل لمنع تخلفها عن السداد. لا أعتقد أن علينا أن نقلق بشأن رجال النفط، بل أعتقد أن علينا أن نقلق على سوق الائتمان". 

لكن صناعة النفط الصخري في الولايات المتحدة أثبتت مرونتها في الماضي، حين حاولت أوبك خنقها عبر سيل النفط الرخيص في عامي 2014 و2015. حين انخفضت الأسعار، انخفض الإنتاج الأمريكي بما يكفي لرفع الأسعار مجددًا، وبدأت آلاتها في الضخ مجددًا، تمامًا كآلية ضبط ذاتي. حتى لو لم تمتلك صناعة النفط الأمريكي الوسائد المالية التي تمتعت بها سابقًا، إلا أن بإمكانها تحمل بضع ضربات. لهذا يتعجب البعض من جهود روسيا الأخيرة لقتل صناعة النفط الصخري في الولايات المتحدة. 

يقول سيرجي غيوريف، أستاذ الاقتصاد في معهد باريس للعلوم السياسية وكبير الاقتصاديين السابق في بنك التنمية والتعمير الأوروبي: "الأمر كله غريب للغاية. إذا نظرت في الأرقام والبيانات، فستجد الأمر غير معقول بتاتًا. التفسير الوحيد هو أن هذه الخطوة نتجت عن خطأ في الحساب وقع فيه أشخاص لم يمتلكوا تحليلًا شاملًا للسوق ولا يدركون كيفية عمل صناعة النفط الأمريكية. 

وبنفس القدر، احتار الكثيرون في قرار السعودية التخلي عن خطط خفض الإنتاج، ولجوئها إلى خفض الأسعار وزيادة الإنتاج. إذا كانت روسيا قد وجهت اللكمة الأولى، فالسعودية توجه اللكمات الثانية والثالثة والرابعة.

تبدو خطوة متهورة وغير محسوبة من قبل ولي العهد السعودي الشاب قليل الخبرة محمد بن سلمان، الذي أقدم على خطوات جريئة وكارثية منذ توليه السلطة الفعلية في المملكة، ابتداء بحرب اليمن الكارثية وصولًا إلى تعامله الوحشي مع المعارضين مثل جمال خاشقجي الكاتب في واشنطن بوست. على الورق تبلغ خسارة المملكة العربية السعودية في ميزانيتها ضعف خسارة روسيا من انخفاض أسعار البترول، وهي تلعب بالنار إذ تحاول خفض الأسعار لإجبار روسيا على العودة إلى تفاهمات OPEC+ غير الرسمية.

قال جان فرانسوا سيزنيك خبير النفط والمملكة العربية السعودية في مركز المجلس الأطلنطي: "هذه خطوة متهورة من عدة نواحي. يحاول ابن سلمان استخدام هجوم الصدمة، ويقول للروس، إن كنا سنخسر فستخسرون كذلك، لذا يستحسن أن تعودوا إلى الطاولة".

لدى السعودية احتياطات نقدية تساعدها على الصمود في وجه انخفاض الأسعار، لكنها أقل مما كانت عليه في 2014، وأقل مما يملكه الروس اليوم، بالنظر إلى متطلبات الميزانية الخاصة بها. كانت السعودية في طريقها لتحقيق عجز في الميزانية يبلغ 50 مليار دولار، ومع انخفاض الأسعار قد يزيد هذا العجز بمقدار 70 مليار دولار ليصل إلى 120 مليار دولار. قد يستطيع الاحتياطي السعودي تحمل مثل هذا العجز لمدة أربع سنوات، لكن السعودية تأمل في حرب نفط سريعة وحاسمة بالتأكيد.

يبين سيزنيك: "لقد علموا بالمخاطرة واعتقدوا أن الروس سيستسلمون سريعًا، وأن الحرب لن تتجاوز 30 يومًا. لكن الروس يعتقدون أيضًا أن السعوديين سيستسلمون سريعًا أيضًا".

تتجاوز مخاطر هذه الحرب بالنسبة للمملكة العربية السعودية الخسائر قريبة المدى وتمس عملية التحول الاقتصادي التي تمر بها. لدى محمد بن سلمان خطة طموحة هي رؤية المملكة العربية السعودية 2030 والتي تشمل إنفاق مليارات الدولارات لتحويل الاقتصاد السعودي من اقتصاد قائم على النفط إلى اقتصاد حديث. لكنها تطلب أموالًا نقدية جاهزة، والتي قد لا تكون متاحة في حال استمرت حرب أسعار النفط. "أعتقد أنه يقتل بذلك خطة الرؤية السعودية"، يضيف سيزنيك.

يرى آخرون خيطًا من العقلانية في هذا الجنون. يقول أنس الحاجي خبير في قطاع النفط السعودي، إن انهيار أسعار النفط ورفع السعودية لحجم الإنتاج والتصدير، قد لا يمثل خسارة كاملة بالنسبة للمملكة. كانت أسعار النفط تعاني بفعل فيروس كورونا والعناد الروسي. وبرفعها لحجم الإنتاج من 7 مليون برميل يوميًا إلى 9 مليون برميل يوميًا، ستجني المملكة العربية السعودية نفس القدر من المال الذي كانت ستجنيه لو تعاونت روسيا، بالإضافة إلى زيادة حصتها السوقية.

اقرأ/ي أيضًا: السعودية تطبّق رسوم مرافقي العمالة الوافدة.. وجه جديد لجباية الإفلاس؟ 

في النهاية، تلعب السعودية وروسيا لعبة عض الأصابع، بانتظار أي منهما سيستسلم أولًا. ولدى كل منهما أسبابه التي تدفعه للاستمرار. وقد تكون كلتاهما مخطئتان. تخطط الدولتان لتحمل ألم قصير المدى لإجبار الأخرى على الخضوع لشروطها.

تلعب السعودية وروسيا لعبة عض الأصابع، بانتظار أي منهما سيستسلم أولًا. ولدى كل منهما أسبابه التي تدفعه للاستمرار. وقد تكون كلتاهما مخطئتان

يقول سيزنك: "يذكرني الأمر بالحرب العالمية الأولى، حين اندفعت ألمانيا وفرنسا إلى الحرب معتقدين أنهم سيعودون إلى منازلهم بحلول احتفالات عيد الميلاد، وقد قضوا أربع سنوات في الخنادق. لهذا تمثل هذه لعبة خطرة للغاية، كأن كل منهما تحارب صورتها في المرآة".