08-ديسمبر-2016

(Getty) جورجو أغامبين

حظى كتاب "حالة الاستثناء" للفقيه الإيطالي جورجو أغامبين بقدر كبير من القراءة. ولأطروحة الكتاب أربع مزايا: الأولى، كثافة مقولته؛ والثانية، يسبر أغامبين مفهومي القانون والدولة الحديثة من منظور مغاير بعد قيامه بحركة نقد ثورية لنظرية القانون العام كاشفًا عما لا تنطق به من نواة عنفية متأصلة لا تعمل بدونها حجبتها النظرية القانونية المهيمنة؛ والثالثة، ما تمثله أطروحة الكتاب من موقف احتجاجي على مناهج دراسة القانون العام التي تفتقر إلى التعبير الحقيقي عن جوهر السياسة الحديثة؛ والأخيرة، يدافع أغامبين عن أطروحة مناهضة لمفهوم السلطة عند المفكر الفرنسي ميشيل فوكو حيث نظر هذا إلى السلطة بوصفها غير قانونية مبثوثة في الجسد الاجتماعي مقوضًا مسلمة انحصار موقع السلطة وتميزه، بينما أغامبين يتخطى الانقطاع في خطابات السلطة وفق المفهوم الفوكوي، ليعيد مفهوم السلطة بوصفها قانونية ليحصرها في الدولة صاحبة السيادة والمالك الحصري لقرار إعلان حالة الاستثناء ذلك القرار الذي لا يشاطره فيه أحد. فالسلطة في التصور الأغامبيني تلك التي تملك قرار الإعلان عن حالة الاستثناء بعد ردها إلى نواة موحدة متأصلة كامنة في الدولة صاحبة السيادة. 

يسبر أغامبين مفهومي القانون والدولة الحديثة من منظور مغاير بعد قيامه بحركة نقد ثورية لنظرية القانون العام

تتميز حالة الاستثناء في أن رجل السيادة هو داخل وخارج القانون يستطيع تعليقه لتعطيه الحق الدستوري في السلطة المطلقة، في حالات معينة، أو ما يُعبر عنه بمفهوم "السلطات الكاملة"، بحيث يتاح للسلطة التنفيذية حق إصدار مراسيم لها "قوة القانون". ويحاجج أغامبين أن حالة الاستثناء تحولت إلى حالة دائمة في النظم الدستورية الديمقراطية.

اقرأ/ي أيضًا: فرانكشتاين لم يمت

لقد لاحظ أغامبين غياب نظرية الاستثناء في القانون العام؛ حيث يؤكد الفقه القانوني المهيمن أن حالة الاستثناء لا يمكن أن تتخذ شكلًا قانونيًا؛ فهي تشكل "نقطة اختلال التوازن بين القانون العام والشأن السياسي"؛ ولذلك فقد عدها ذاك الفقه حالة من غير الممكن أن تتحول إلى نظرية عامة في القانون. فاللحاظ القانوني لدولة القانون بوصفها دولة مجردة وكلية وموضوعية، تخاطب الأشخاص بصفاتهم لا بذواتهم وتروض الرغبات البربرية في نفوس المواطنين لتحولهم إلى مطواعين، وأن أي انحراف هو مجرد حادثة استثنائية، أو نكوص عارض، أو انحراف مؤقت عن مسار دولة الحداثة والتقدم والإنسانية. ليبقى عسف الدولة مُشرعن، وقتلها قانوني دومًا إن مارسه صاحب السيادة.

نقودات النظرية   

تعرضت النظرية لنقد واسع. فالقانونية جوليانا سكوتو، اعتبرت أن نظرية الاستثناء لا توجد في النظم الديمقراطية المعاصرة نظرًا لما يسودها الفصل بين السلطات (وهي النظرية التي تعرضت لنقدٍ نفاذ من بعض الفقهاء لا داعي لذكره ههنا)، واعتبرت من زاوية أخرى، أن الضمان الأكثر فعالية للحيلولة دون وقوع قرار الاستثناء هو اضطلاع الفرد باحترام النظام القانوني، إذ ذاك لن يظهر إلى الوجود أي أساس عنيف أكثر أصالة حتى إن تم الإعلان عن قرار الاستثناء. وهو نقد يعكس نظرة محافظة ضيقة الأفق. بينما يعتبر ساري حنفي أن حالة الاستثناء لا تعني أن الحاكم يستطيع اللجوء لها في أي مكان وزمان، وأن المخيم هو الشكل النموذجي لحالة الاستثناء. كأن حنفي يشي بوجود أنظمة سياسية خارج حالة الاستثناء، بالإضافة، كما يشير حنفي، إلى أن أغامبين لم يهتم كثيرًا بذاتية الفاعل الاجتماعي. وفي التطبيقات العربية للنظرية يبدو أنها تنطلق من فهم يضيق من حالة الاستثناء على التشريح السياسي للأنظمة القمعية العربية دون الأنظمة الديمقراطية.

يمكن القول إن تلك الآراء النقدية غير متروية ومتحيزة من السهولة دحضها (سأتعرض لها في دراسة مطولة ستصدر قريبًا). ما يهمني ههنا هو تبيان أن ثمة خلطًا يكتنف تطبيقات النظرية يربط بين حالة الاستبداد وحالة الاستثناء، من خلال فهم يرى أن حالة الاستثناء تعمل في ظل أنظمة ينعدم فيها سيادة القانون.

ما أود توضيحه هو أن حالة الاستثناء هي نظرية في القانون العام تفسر كيف تعمل الدولة الحديثة. وبالتالي إن فهمها على أنها نظرية تفسر الأنظمة الدكتاتورية دون الديمقراطية هو فهم مغلوط ومشوهة وانحراف عن مقاصد النظرية، التي تتعلق بالأساس بالنظم الديمقراطية الليبرالية الدستورية، التي يرى أغامبين أن الديكتاتورية قابعة فيها لا خارجها. فضلًا عن ذلك فقد جاءت النظرية لمساءلة مفهومي القانون والدولة الحديثة. وهذا لا يعني عدم تطبيقها على الأنظمة العربية القمعية لا لأنها أنظمة استبدادية فحسب، بل لأنها أنظمة قانونية حداثية أيضًا فكل المجتمعات تعيش زمن الدولة الحديثة، والفارق بين هذه والدولة العربية هو فارق في الدرجة لا في النوع. ولتوضيح المعنى أكثر فلو تخيلنا نظامًا لا يوجد فيه قانون ففي هذه الحالة لا معنى لتطبيق نظرية الاستثناء، فهذه تطبق في أنظمة يسودها القانون فقط. وعليه فالاستثناء استبداد ينهض على القانون. قد يعود الخلط بين الاستثناء والاستبداد في الفهم والممارسة العربية إلى عدم العناية الكافية في فهم المصدر الفلسفي لحالة الاستثناء.

"حالة الاستثناء" هي نظرية في القانون العام تفسر كيف تعمل الدولة الحديثة

المصدر الفلسفي للاستثناء

من غير الممكن استيعاب حالة الاستثناء وعمقها النظري وكثافة دلالتها دون هضم مصدرها الفلسفي حيث استنبط أغامبين نظريته. بمعنى يتوجب فهم كيف أن أغامبين وظف الفلسفة الدريدية (نسبة إلى الفيلسوف جاك دريدا)  ليتوصل إلى نظرية الاستثناء، وهذا شرط سابق لاستيعابها فبدون هذا الاستيعاب ستبقى حالة اللبس متواصلة. وبالتالي دون فهم دريدا لا يحصل فهم حالة الاستثناء.

اقرأ/ي أيضًا: القاهرة: مدينة الاغتراب القسري

يكمن انشغال دريدا المتواصل في تبيان كيفية الانتقال بين المادة والصورة، الطبيعة والثقافة، الرمزي والمادي، وبأي الطرق تتحول التجربة الملموسة إلى أفكار غير مادية. ويلفت دريدا إلى أن الفكر الغربي استمر يتبصر تلك المقولات ظنًا منه أنه أكتشف أساس الواقع تارة في المادة وتارة في الصورة، دون أن يلتفت إلى أن هذه الثنائيات مُكونة دومًا من كينونات من العالم رغم تجردها في حين تكمن في التداخل الذي يصل بين كل مصطلحين. وقد أطلق دريدا مصطلحات مختلفة على هذا التداخل أو التركيب، إن جاز لنا القول، بين كل ثنائية كالأثر أو العتبة تلك التي يتشكل منها حالة كينونية جديدة تصل بين الثنائيات المتقابلة.

استثمر أغامبين هذه الفكرة ليطبقها على النظام القانوني الحديث، فالأثر الدريدري يكمن، وفق أغامبين، في حالة الاستثناء التي تستدخل القاعدة والواقع في تركيب أعلى لا هو بالقاعدة ولا هو بالواقع. ليصل في النهاية إلى فكرة ثورية ألا وهي أن مواطن الدولة الحديثة لا يخضع للقانون الذي يضعه ممثلون منتخبون من خلال انتخابات عامة حرة ونزيه فحسب، بل يخضع في المقابل للعتبة أو للأثر المتمثل في حالة الاستثناء (أي تعليق القانون ورد السلطة إلى نواة أصلية). وأن النظام القانوني تستحكم فيه نزوعات لا شرعية متجذرة تتحول إلى قواعد جديدة ترد الواقع إلى "القانون" غير المقنن مستدخله الطارئ (ما هو خارج القانون، أي الواقع) إلى "القانون" (حيث يضع خطًا أفقيًا على كلمة "القانون" كأنه موجودًا وغير موجودٍ في نفس الوقت وهي فكرة مستوحاه من الفيلسوف جاك دريدا). وهذا يؤدي على قابلية الديمقراطيات الغربية للانزلاق إلى "دكتارتوريات مُفوَّضة". وهذه حالة غير مخصوصة في زمان ومكان محددين بل هي حالة ملازمة للدولة الحديثة. ما يترتب عليها تحول الاستثناء إلى عملية تأسيس حرب أهلية قانونية لما تتيح من إمكانية التصفية الجسدية ليس فقط للخصوم السياسيين؛ بل لشرائح كاملة من المواطنين تعتبرهم السلطة غير قابلين للاندماج في النظام السياسي.

فالأثر أو العتبة (الدمج بين القاعدة والواقع) تنتج وضعًا (أي كينونة تتمثل في حالة الاستثناء) يظل فيه النظام القانون قائمًا بشكل مجرد، ويحل محله قواعد جديدة تستند في وجودها إلى ما هو معلق من قواعد قانونية تحكم الواقع الجديد، وترده إلى القانون من خلال تعليقه. وبالتالي تعيد الواقع الطارئ غير الخاضع للقانون الساري إلى النظام القانوني، من خلال فعل يبدو قانونيًا وغير قانوني في نفس الوقت. بيد أن القانون المعلق، الذي أُوقف سريانه يبقى مجردًا (أي يبقى معلقًا لا يطبق في الواقع وأصبح صورة مجردة أنفك عن تقنين الواقع لتحل محلة حالة الاستثناء التي تضبط الواقع)، لكنه يمنح تعليقه الشرعية وكما يمنح القواعد "القانونية" الجديدة (الاستثناء) الشرعية ذاتها. فتكون وظيفة الاستثناء هي تعليق القانون من جهة واحتواء الواقع وطمسه في نظام "قانوني" جديد (العتبة أو الأثر بلغة دريدا). وبالتالي تعمل حالة الاستثناء على إلغاء التمايز بين القانون أو القاعدة المعيارية والواقع فتكسر الثنائية وتستدخلها في كينونة جديدة: حالة الاستثناء التي تبقى داخل وخارج القانون، وتكتسي شرعيتها منه لتقوم بأفعال غير "شرعية" ما احتفاظها بقدرة على التبرير القانوني من خلال اتصالها بالقانون وفي نفس الوقت القدرة الدستورية على تعليقة.

أية محاولة تسعى إلى قصر "نظرية الاستثناء" على الاستبداد العربي هي تشويه للمقاصد 

اقرأ/ي أيضًا: الملك سلمان يشنق نفسه في مصر!

وهكذا فالاستثناء نظام قانوني يسد فجوةً تركها فقهاء القانون. وهي حالة داخل الأنظمة القانونية لا خارجها، فلا تعمل حالة الاستثناء بدون سيادة القانون وهذا شرط أساس لعملها. فثمة تداخل بين حالة الاستثناء والقانون إذ تستمد شرعيتها منه لتعطي نفسها الحق في تعليقه لمواجهة واقع غير مقنن مثل حركات المقاومة والثورات والحركات الاجتماعية الجذرية؛ لضبط كل مواطن تسوس له نفسه بالتمرد والخروج على القواعد.

وختامًا، يمكن القول، ونتيجة لما سلف، أن أغامبين يريد الإعلان عن فتح نظري جديد يلقي من خلاله الضوء على فشل المزاعم الكبرى للحداثة في ضبط السلطة/القوة. كما أن ما بعد الحداثة لم تقدم ما من شأنه أن يعالج هذه المعضلة، إذ لم تقدم سوى شروحات مهمة لكيفية عمل القوة في المجتمعات الحديثة كاشفة عن اشتغالها، لكنها لم تقدم إجابة على كيفية ضبطها وههنا تكمن ورطة الحداثة في فشلها في ضبط القوة التي تحولت إلى قوة عارية. وهنا تعود أهمية ما قدمه أغامبين من نصائح لشباب الثورة التونسية عندما وجه لهم تلك الخلاصة الكثيفة لمعارفه القانونية ناصحًا إياهم بـ"أن يتصوّروا دستورًا لا يكون مجرّد استنساخ على المنوال الأوروبيّ الذي يمر بأزمة حادّة حيث انتهى به الأمر إلى خنق كلّ حياة سياسيّة، وأصبح  تطوّر البرلمانات في الغرب بدل أن يكون مقرَّ سلطان السّيادة، قد انتهى بها الأمر، في الغالب، إلى المصادقة على أوامر وتراتيب عاجلة اتّخذتها السّلطة التّنفيذيّة".  

وعليه إن أية محاولة تروم قصر النظرية على الاستبداد العربي دون الأنظمة الديمقراطية الغربية هي تشويه للمقاصد الكبرى للنظرية. وعلى ما يبدو ليّ أن هذا الاقتصار هو من أجل تحرير زمن الليبرالية العربية من حالة الاستثناء كأن هذه ترافق الاستبداد فقط. وهذا تحريف للنظرية فهذه في الأساس جاءت لتفسير الحالة الدستورية الليبرالية في الغرب، فحالة الاستثناء صنيعة التقاليد الديمقراطية الثورية لا الاستبدادية. فهي نظرية في القانون والتقاليد الديمقراطية لا في الاستبداد والأنظمة التي ينعدم فيها وجود القانون.  

 

اقرأ/ي أيضًا:

الجفاء بين الكاميرا وبيروت القديمة

لماذا لن تنتهي "داعش" بعد الموصل؟