13-أبريل-2019

لا يبدو في الأفق السوداني ما يبعث على الطمأنينة الكاملة (فيسبوك)

لا يبدو في الأفق السوداني حتى الآن ما يبعث على الطمأنينة الكاملة، فكل دولة عميقة تنهار بهذه السهولة تثير المخاوف والشكوك معًا، لأن نظام البشير لا يختلف عن نظام حسني مبارك كثيرًا، تغلغل في الذاكرة والطوابير والأحزان والمصالح الدولية والطرق الصوفية وألواح القبيلة، والخلايا النائمة، وخطاب الهويات القاتلة، ويختبئ أيضًا في حقيبة جندي عائد من الأحراش.

 نظام البشير لا يختلف عن نظام حسني مبارك كثيرًا، تغلغل في الذاكرة والطوابير والأحزان والمصالح الدولية والطرق الصوفية وألواح القبيلة، والخلايا النائمة، وخطاب الهويات القاتلة

تلاشى البشير ما بين ليلة وضحاها ربما لأنه استنفذ صلاحياته، أو أن الشعب أراد الحياة ليستجيب القدر، ولكن كيف تجرأ عليه الضباط الذين نفخ فيه من سطوته ونياشينه؟ ألا يمكن أن تكون تلك مسرحية بأن يعتلي السلطة نائبه الفريق عوض بن عوف، وكذلك كمال عبد المعروف، ومن ثم ينزاح هذا الكابوس، تحت وطأة سيسي سوداني، اسمه عبد الفتاح أيضًا للمقاربة العجيبة. 

اقرأ/ي أيضًا: الشارع السوداني ينتفض ضد الجوع والقمع.. لا شيء لدى السلطة إلا "البوليس"

كل ما يعرف عن رئيس المجلس العسكري السوداني الجديد الفريق عبد الفتاح البرهان أنه هو المفتش العام للجيش، ولا يُظهر أي انتماء سياسي للحركة الإسلامية، لكن الغبار خلفه لا يهدأ يتناثر، فهو قائد القوة العسكرية في اليمن، ووثيق الصلة بالدوائر السعودية والإماراتية، وإن لم يكن ذلك بحكم التكليف والائتمار لقادته، فإنه لا يبدو مبشرًا، لكون السودان عاني كثيرًا من هذه التدخلات الفجة، ومن أجندة استعمارية بريطانية قبل كابوس عقيد ليبيا معمر القذافي، والآن محاولات حثيثة لتوريطه في مشاكل الخليج بأي صورة.

بلد فقير ويعاني من أزمات اقتصادية وتهديد النسيج الاجتماعي بسبب الحروب والحدود في حاجة للحياد والتفاعل الإيجابي مع المحيط، واستعادة الديمقراطية المجهضة بحكم العسكر ومن شايعهم، فما نحن فيه وطأة هوان وسيادة لرداءة التفكير السياسي وتغليب المصلحة الشخصية، على النحو الذي يهدد الكنداكة الأم بالموت وجنين الثورة أيضًا.

كانت شوارع وسط الخرطوم قبل عزل المشير البشير حافلة بالشلل العام، بحيث انحسرت حركة السيارات المندفعة، وبدا أن إغلاق الكباري خفف وطأة زحام المركبات العامة، وساهم في تعميق الأزمة، فكل ما اقتربنا من الشوارع المحيطة بالقيادة العامة للجيش ظهرت بشائر المشهد الثوري.

ومما ساعد على تعزيز ملمح أقرب إلى العصيان المدني انطفاء التيار الكهربائي في كافة أنحاء السودان، على نحوٍ متكرر، جعل الناس تلعن الظلام ومن أوجده وفق تدرج الظلامات، بينما كانت الصرافات الآلية والبنوك خالية من النقود تمامًا، وكل شيء محكوم بالغلاء كدافع أكبر للتبرم والالتحاق بالتظاهر، وهذا بالضبط منح نظرية المؤامرة على البشير الحق في النقاش، أو كأن هنالك من طبخ السم ليقتل القيصر فيرثه.

في الخامسة عصرًا بلغ الاعتصام ذروته، وكانت الشوارع، شارع الجامعة والجمهورية ومداخل القيادة ونفق جامعة الخرطوم كشريط سينمائي يستعرض التاريخ، والألق البشري عالق في كل مكان، حتى اللوحات المضيئة، مرورًا بالسكة الحديد ومستشفى الحوادث وصينية بري، وحدائق "حبيبي مفلس" التي أدركها اليتم في الماضي، وتخوم شارع الشهيد عبيد ختم، كلها تغص بالمعتصمين، وتحت تصرف ذكرى ثورة نيسان/أبريل 1985، التي أطاحت بالنميري، والمنبعثة اليوم كحدث مماثل، يسعى لإنهاء حقبة البشير ودولته العميقه، بالصورة التي تجعل النهاية حتمية، لا أقل من ذلك.

 الحشود تتنامى يومًا بعد يوم، وإن كان يصعب وصفها بالمليونية، لربما تكون أكثر من ذلك، كانت هنالك أسر تلتحف ظلال الأشجار، وأخرى تظلل بعضها من صيفٍ قاسٍ، جعل حرارة الثورة ترتفع في النفوس، وكان هنالك نوع بديع من السخاء والمحبة، وإبداع في الخلق الفني. الفتيات الجميلات يبتسمن في وجوه الشباب، الشباب يحمون بعضهم ويؤثرون على أنفسهم بالطعام والشراب، الشعارات وليدة الإلهام اللحظي، وكانت تلك الحشود لا تريد أن تغادر قبل أن يغادر الجنرال الأول والثاني، وهي مفارقة مدهشة وتاريخية أن يخلع الشعب السوداني رئيسين في عطلة نهاية الأسبوع.  

في ميدان الاعتصام، اتسم خليط من الناس بالرغبة في إنجاز التغيير، مع مخاوف وثقة أيضًا في الجيش الذي تكفل بحمايتهم، وهنا ربما تكون القوات المسلحة قد اكتسبت الجاذبية التي كادت تفر منها، وعلى نحوٍ أكثر دقة كسبت صيت الاستدعاء من قبل الثوار، ولا أحد يعلم بالضبط هل هو سيناريو معد سلفًا بأن يحرق الجيش مراحل اللعبة السياسية التي أعدها النظام السابق ليتأهل للنهائي، أم أنه مرر الاعتصام ليكتسب شرعية انقلاب جديدة مسنودة جماهيريًا؟

اقرأ/ي أيضًا: عام الثورة على المأساة في السودان

الشباب والمتعلمون يتظاهرون ضد غياب التوجهات السياسية وهذا يدحض بروبغاندا شوعنة وبعثنة المطالب، والتي يبدو أيضًا أنها قد انسحبت إلى موجة عارمة ضد القمع، مع شعور دائم بالضياع والإهانة، كانت قد أفرزته محاولات قادة السُلطة استفزاز الشباب وتسفيه أحلامهم، وبالتالي أضحى من الغباء تجاهل مأساة هذا الجيل، أو من قرروا التظاهر ضَّد التآكل التدريجي لوضعهم الاقتصادي، لدرجة أنهم جاوبوا على السؤال المفجع، ماذا يجري تحت القاع؟ وهنا أعني حتى ضباط وجنود الجيش، الذين أدركوا من الوهلة الأولى أن من يحتمون بهم ينتمون لمخاوفهم ورغبتهم في الخلاص.

من قال إن الكوادر تقرر كل شيء هو ستالين دون أن يشرح ذلك، لكنها بالفعل الكوادر غير المنتمية قررت البقاء وحماية مكتسبات الاعتصام، الذي يبدو فعلًا أنه سوف يتواصل، ومحاولات فضه بالقوة مكلفة جدًا، وهي على الأقل ليست محاولات فض غشاء بكارة في دخلات سادية.

أما الاستهتار بالشعب فعاقبته مكلفة، والثورة التي لا تكتمل ترتد بصورة أكثر عنفًا وانتقامًا وتعميقًا للاستبداد، دون حاجة للمرور ببذاءات مظفر النواب والاكتفاء بعبارته الشهيرة: "وأنا يا سيدتي يقتلني نصف الدفء ونصف الموقف أكثر" .

 

اقرأ/ي أيضًا:

السودان.. دعوات إلى "انتفاضة ثالثة"

صحف السودان.. ما يريده الأمن!