19-مايو-2021

رسم لـ بيت كرينر/ أستراليا

فلسطينُ التاريخية، هي أصلُ الحكاية، ومن يمتلك البدايات وأصل الأشياء لا يخاف التيه، مهما تعاظمت النكبات. يعودُ الشارعُ الفلسطينيُّ اليوم ليثور من جديد، بعيدًا عن أيّ تأطير رسميّ للهبَّة التي أزاحت الستارَ عن قهرٍ مُتراكمٍ أشعلَهُ فَتيلُ الدِّفاع عن سكان حيّ الشيخ جراح في القدس المحتلة، والذين وقفوا في وجه عصابات المستوطنين المدعومين بقوات الاحتلال الإسرائيلي.

شهدت "فلسطين التاريخية" هبّة شعبية وحّدت الفلسطينيين من النهر إلى البحر، خاصَّة بعد الاستجابة للإضراب الشامل

ثورةٌ بعثت مرَّةً أخرى الكثير من الأحلام الثورية التي استوتْ قهرًا تحت الأقدام، أقدام العدو، والسلطة الفلسطينية الحالية، وكذا المُطَّبعين ممَّن كانوا يكتبونَ الفصولَ الأخيرة من الحكاية الفلسطينية، بإشراف أقصى اليمين الإسرائيلي وإمضاء يمينٍ آخر في أمريكا القرن الحادي والعشرين، لكنَّ الشعبَ حين يُريد، يأمر الأرض أن تميد تحت أقدامهم، فتنقلبُ عليهم الأمور ويصبحونَ كما يقولونَ بالفصحى: في خبرِ كانَ.

اقرأ/ي أيضًا: فلسطين؟ لنمرر تلك الجينة على الأقل

وبعيدًا عن كرونولوجيا الأحداث منذ اندلاعها منتصف نيسان/أبريل 2021، شهدت "فلسطين التاريخية" هبّة شعبية وحّدت الفلسطينيين من النهر إلى البحر، خاصَّة بعد الاستجابة للإضراب الشامل بالبلدات العربية داخل الخطر الأخضر، كشرارةٍ أخرى ستكونُ لها انعكاساتُها بتعطيل الاقتصاد، والتأكيد، وهذا الأهم، على أنَّ الطبقة العاملة في الجبهة الداخلية ليست مجرَّد أرقامٍ تعريفية تشتغل لدى العدو، إنَّما هي جزءٌ لا يتجزأ من شعبٍ واحد، فرَّقت بينه الحدود والحواجز والانتهاكات الصريحة لكل المواثيق والأعراف الدُّولية.

مسيرات حاشدة وحراك شبابي عمَّ كلَّ شبرٍ من فلسطين من الضفة إلى الداخل، وصولًا إلى غزة التي تشهدُ عدوانًا صهوينيًا وحشيًا، وتقاوم عسكريًا الآلة الحربية المعلنة على المدنيين في القطاع، حصارٌ وقتل وتهجير ومحاولاتٌ لم تتوقف منذ 1948 لتهويد القدس، وتهجير الفلسطينيين من منازلهم، بشكل همجي ومنهجي، ضمن أجندةِ جماعةٍ دينيَّة متطرّفة ومهووسة بالخرافات والأكاذيب، جماعة لا علاقة لها بمفهوم الدولة، تسعى إلى محوِ أثر فلسطين تاريخيًا ودينيًا وإنسانيًا، خاصّة وأن سبب موت الفلسطيني منذ تحالفت عليه القوى الإمبريالية، بما فيها الصهاينة العرب، كان وسيبقى جغرافيًّا، لأن لا أحد يستطيع أن يهزمه أمام امتحان التاريخ والحضارة والدولة.

في هذا المشهد المُركَّب، هُزمت إسرائيل وسطلتها وجيشها هزيمة نكراء، على مستوى الرأي العام العالمي، وإن بدا في الظاهر تفوُّقها الميداني بإحصاء عدد الشهداء الفلسطينيين والجرحى والمعتقلين، في مقابل قتلاها وجرحاها، إلَّا أنَّ ذلك كلّه، لم يكنْ سوى ليكشف عن همجيةٍ وتطرّفٍ وعدوانٍ إسرائيلي أمسى عنوانًا واضحًا للأبارتهايد، وقد فُضحَ بشكلٍ أكبر في عالم القرية الواحدة رغم التعتيم الممارس من قبل وسائل التواصل الاجتماعي خاصة فيسبوك وإنستغرام.

في مقولةِ روزا لوكسمبورغ: "الحماسة والوعي الناقد، هما كل ما نحتاجه"، تتجلّى المسائل الحاسمة في المرحلة القادمة، وما سينجم عنها من تكامل وظيفي بين شباب الحراك الحالي، خاصة وأن الإضراب الشامل أثبت الالتزام الكلّي للفلسطينيين أينما كانوا، خارج الحدود المصطنعة، في الداخل أو لدى فلسطينيي الشتات، والذين أثبتوا بدورهم أهمية الصورة والكلمة وإعادة الروح للقضية الفلسطينية كونها قضية تحرّرية عادلة، بعد أن خبت وحاولت تلك الأقدام الدوس عليها تحت طاولات المفاوضات والتنازلات والتطبيع مؤخراً. إلَّا أنَّ كلمة الشارع أعلى بكثير.

لا بدَّ وأن تكون صفارات الإنذار في الطرف الإسرائيلي هي الخلفية لكلّ كلامٍ يسبق رفع صوت عبارات النصر والمساندة والدفاع عن حقّ الفلسطيني الثائر في مواجهة عدوّه الهمجي. هي ثورةٌ مكتملةُ الأركان، جمعت من جديد، وبشكل موثّق وعَمَلي، الفلسطينيين في الداخل والأراضي المحتلة، وغزة المحاصرة، بفلسطينيي الشتات وبكل إنسان حرّ على هذه المعمورة، في ظل تضامن عالمي غير مسبوق. بالرغم من السياسات الإمبريالية للدُّول الكبرى، والصمت العربي الرسمي الذي ستُمزِّقه غداً ملايين الأسئلة والاحتجاجات الشعبية.

ثورةٌ حطَّمت الكثير من الأوهام الصهيونية الاستيطانية، أمام سلطةٍ فلسطينية سلّمت بأن الأمر محتوم. وهي كمثيلاتها، ظلّت تساير الأوضاع وتخشى كلمة "التغيير" ومواجهة ذلك الأمر المحتوم، على الأقل، بما أُتيحَ لها من أدوات المقاومة. عكسها، وعلى النقيض تماماً أثبت الشعب الفلسطيني أنَّ إرادة الحياة أقوى من كل مستحيل.

الثورة الفلسطينية الحالية، تأتي لتعلن، في أيام حالكة، استمرار ربيعٍ عربيٍّ لم يخبُ، رغم كل الخيبات ورغم الضريبة التي دُفعت وتُدفع إلى اليوم

"حتّى في أحلك الأزمنة، فإنّ لدينا الحقّ في توقّع بعض الإلماعات"، هكذا تقول حنّة أرندت في مجموعة مقالاتها "بشر في أزمنةٍ حالكة"، ولعلّنا فعلًا اليوم، من الجزائر إلى فلسطين، بشرٌ في أزمنة حالكة، نتجرأ على توقّع بارقة الأمل، وننتفض ونثور ونكتب ونحب الحياة، حتى ونحن متشائمون، ما استطعنا إليها سبيلا.

اقرأ/ي أيضًا: القدس كما تبدو من بيروت

الثورة الفلسطينية الحالية، تأتي لتعلن، في أيام حالكة، استمرار ربيعٍ عربيٍّ لم يخبُ، رغم كل الخيبات ورغم الضريبة التي دُفعت وتُدفع إلى اليوم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن الحقّ في رفض إسرائيل

المثقّفون الفلسطينيون والحالة الراهنة