19-مايو-2021

على الفلسطينيين أن يجاهروا بحقهم في رفض إسرائيل

في النقاش الدائر حاليا بين المناصرين للقضية الفلسطينية يتركّز الحديث عموما حول حقّ الفلسطينيين في المقاومة بكافة أشكالها، وحقهم في العودة، وحقهم في استرداد بيوتهم وأراضيهم، وحقهم في المساواة والتعليم والحركة والعمل وغيرها من الأشكال القانونية لمفهوم الحقوق. ولا شك في أن خطاب الحقوق هذا يجد أصداء واسعة حول العالم، وهو ما نراه الآن من استجابة غير مسبوقة ربما لتبني الحقوق الفلسطينية والإشارة إلى إسرائيل بعبارات كانت تعدّ تابوهات قبل عقود، مثل: أنها كيان عنصري، وأنها نموذج آخر للأبارتهايد، ومثال صارخ للاستعمار الاستيطاني. هذه التوصيفات لإسرائيل، التي لطالما ردّدها الفلسطينيون، انتقلت الآن لتصبح جزءا من مفردات الإعلام السائد في إشارته للكيان الصهيوني.

يتأسّس الحقّ في رفض إسرائيل على فكرة جوهرية مثبتة نظريا وتاريخيا: إسرائيل في جوهرها وأيديولوجيتها كيان عنصري، لا يمكن له البقاء، بشكله الحالي، إلا إذا حافظ على هذه العنصرية بوصفها مكونا أساسيا لهوية الدولة الصهيونية

 وعلى الرغم من الإيجابيات العديدة لوضع القضية الفلسطينية ضمن إطار حقوقي، إلا أن المسألة تظل ناقصة برأيي ما لم تشر إلى حق أساسي هو ركيزة الحقوق ولبّها للفلسطينيين وأنصارهم حول العالم: الحقّ في رفض إسرائيل؛ فإذا كانت الحقوق سالفة الذكر تنطلق من الفلسطينيين بوصفهم أساس المظلوميّة، فإن الحق في رفض إسرائيل يتناول الجهة المقابلة المسؤولة أساسا عن المأساة الفلسطينية. وفي حين أنّ حقوق الفلسطينيين الأخرى تُعْنى بما هم محرومون منه كوسيلة لرده إليهم، فإن حق رفض إسرائيل ينطلق مما هو قائم على الأرض بهدف نفيه وإلغائه.

ماذا يعني الحق في رفض إسرائيل؟ يتأسّس هذا الحقّ على فكرة جوهرية مثبتة نظريا وتاريخيا: إسرائيل في جوهرها وأيديولوجيتها كيان عنصري، لا يمكن له البقاء، بشكله الحالي، إلا إذا حافظ على هذه العنصرية بوصفها مكونا أساسيا لهوية الدولة الصهيونية. وبما أن الوضع الجغرافي القائم يحتّم على الفلسطينيين أن يتعايشوا مع هذا الكيان، سواء أكانوا مواطنين من الدرجة الثانية داخله أم خاضعين لاحتلاله في باقي فلسطين التاريخية، فإن من حقّ هؤلاء الفلسطينيين أن يرفضوا وجود كيان عنصري إلى جانبهم. إن نفي إسرائيل من الوجود شرط أساسي لتحقيق الدولة الفلسطينية المأمولة، إذ لا معنى لوجود دولة في العالم الحديث تميز بين أفرادها بناء على الدين/العرق، ولا يتساوى أفرادها أمام القانون، ولا تمتلك تعريفا جامعا مانعا لمن هو المواطن فيها من غير المواطن.

الحقّ في رفض إسرائيل هو الأساس الذي يجعل من حقوق الفلسطينيين الأخرى قابلة للتحقق، إذ إن وجود إسرائيل هو العائق الجوهري أمام الفلسطينيين لينالوا حقوقهم. كيف يمكن إنجاز حق العودة في ظل وجود إسرائيل؟ حق الحركة مثلا؟ ماذا عن حق المساواة القانونية؟ إن نضال الفلسطينيين حول الحقوق الجزئية هذه دون التطرق لوجود إسرائيل نفسها يبدو نضالا ناقصا للغاية، إن لم نقل عبثيا، وبعد أكثر من مئة عام من النضال الفلسطيني، فليس من المعقول أن يقبل الفلسطيني حلا ناقصا لقضيته. حلّ القضية الفلسطينية، في ظل وجود إسرائيل، هو لا حلّها تماما.

قد يبدو الكلام السابق راديكاليا مخيفا، أو جزءا من مخلفات عصر مضى في النضال الفلسطيني. كيف يمكن أن ننتج خطابا يدور حول الحق في رفض إسرائيل بعد عقود من معاهدات السلام والاعترافات المتبادلة؟ ولجزء من عالم محايد نريد أن نصدّق أنه يسعى حقا لحل عادل للقضية الفلسطينية فإن عبارات مثل رفض إسرائيل ستثير حتما قلقه وتوجسه. سيثور السؤال هنا: ماذا عن الحق الإسرائيلي؟ أليس من حق إسرائيل أن تكون إسرائيل؟ أن تظلّ إسرائيل؟

ثمة إجابتان عن هذا السؤال،  إحداهما تفضي للأخرى. أولا، على الفلسطينيين حتما أن يشرحوا ويوضحوا قصدهم حين يصرّون على رفض إسرائيل كأساس لحلّ الصراع. إن رفض إسرائيل بالمعنى الفلسطيني هو رفض نظام، كيان، دولة، شكل قانوني، اسمه إسرائيل، وليس رفضا لمجموع الناس الذين ينتمون لهذه الدولة ويحملون جنسيتها. علينا أن نتذكر هنا أن ربع هؤلاء الناس فلسطينيو الأصل، وأن عددا كبيرا منهم سيؤيد فكرة رفض إسرائيل التي أتحدّث عنها. إن رفض إسرائيل لا يعني إنكارا لوجود هؤلاء المواطنين الذين يحملون جنسيتها، إلا إذا أصرّ هؤلاء المواطنون على أن وجودهم في هذه البقعة مربوط بوجود إسرائيل كما نعرفها وتعرّف هي عن نفسها. بمعنى آخر، فإنّ رفض إسرائيل هو هدم لكيان وتقويض لنظام عنصري، لا لشعب، وهو خطوة أولى أمام محاولة تخيل أشكال جديدة للعلاقات القومية والإنسانية التي ستنشأ في ظل الفراغ الإسرائيلي. والفلسطيني الذي يسعى لرفض إسرائيل لأنها كيان عنصري لن يقبل حتما أن يقيم مكانها كيانا عنصريا آخر، ولا أن يمارس ضد (من كانوا) إسرائيليين ذات الدور الذي مارسته إسرائيل ضد الفلسطينيين.

وهو ما يقودنا للنقطة الثانية. أين الحقّ الإسرائيلي؟ أليس من حق إسرائيل أن تظل إسرائيل؟ أن تحافظ على نفسها؟ كيف نسعى لتأسيس حقّ فلسطيني يقوم على أنقاض الحق الإسرائيلي؟ الجواب لا، ليس من حق إسرائيل أن تظل إسرائيل. ليس من حق إسرائيل أن تكون كيانا عنصريا استيطانيا يضع شعبا فوق شعب، ويمارس تمييزا سيصعب على الكثير تصديق أنه لا يزال قائمًا في عالمنا هذا. سيجادل بعض الصهاينة في مسألة تقرير المصير وحق اليهود في أن يكون لهم دولة يهودية. على المستوى النظري، لو وجد شعب متجانس في بقعة فارغة في العالم وأراد تقرير مصيره عليها فلا أحد سيجادل في ذلك، لكن إسرائيل لم توجد في بقعة مماثلة، ومن ثَمَّ فليس من حق الشعب اليهودي الذي احتل فلسطين وطرد أهلها أن يدّعي أن له حرية تقرير مصيره كما يريد. ببساطة، ليس من حق العنصري أن يظل عنصريا. وإذا افترضنا جدلا أن شكل الدولة الإسرائيلية تغير، وأنها حققت مطالب الفلسطينيين، وغيّرت هويتها العنصرية، فهي إذن لم تعد "إسرائيل" التي نعرفها.

هل يعترف الفلسطينيون بحق إسرائيل في الوجود؟ هذا سؤال مرفوع دوما في وجه الفلسطينيين وأنصارهم، يشكل أحد وسائل التخويف والإرهاب الفكري التي تستخدمها إسرائيل حول العالم لتظهر نفسها بمظهر الدولة الهشة التي يريد خصمها تدميرها. يخشى بعض الفلسطينيين من الإجابة عن هذا السؤال، يخافون أن يساء فهمهم أو تستغل عباراتهم على غير مقصدها. على الفلسطيني أن يرفع صوته عاليا بالإجابة، مع تقديم توضيح شاف لها: لا. لا نعترف بحق إسرائيل، ككيان عنصري استيطاني، في الوجود، لأن وجوده بهذه الصورة سيكون على حساب حقوقنا. وكي تكون حقوق الفلسطينيين الأساسية على الأقل كاملة وغير منقوصة فلا يمكن القبول بوجود إسرائيل. هذه ليست مذبحة. ليست إبادة. إنها دعوة لإنهاء نظام عنصري، لا بشر.  

قد يرى البعض أن الإصرار على نفي إسرائيل كأساس لحل الصراع مثالية لا يمكن تحقيقها في عالم اليوم. لا شك أن هناك صعوبات هائلة أمام تحقيق نفي إسرائيل، والأمر بحاجة لدراسات وخطابات فلسطينية ودولية تقدم تصورا لتفكيك هذا الكيان العنصري والشكل الذي ستأخذه فلسطين التاريخية بعدها (وهناك بالفعل دراسات بدأت بتقديم ذلك)، لكن هذا الحل ليس مثاليا مطلقا. على العكس تماما، فإن هذا هو الحلّ الواقعي الوحيد للصراع. الحل غير الواقعي هو أن تسعى لتحقيق حقوق جزئية لن تتحقق أصلا في ظل وجود دولة عنصرية، والعالم في العقود الأخيرة أضاع وقته ووقت الفلسطينيين والإسرائيليين معا حين بدأ الحل من القاع، من فتات القضايا التي لن تقود لشيء، في حين إن رأس القضية هو إسرائيل نفسها.

الحقّ في رفض إسرائيل هو الأساس الذي يجعل من حقوق الفلسطينيين الأخرى قابلة للتحقق، إذ إن وجود إسرائيل هو العائق الجوهري أمام الفلسطينيين لينالوا حقوقهم

على الفلسطينيين أن يجاهروا بحقهم في رفض إسرائيل، ألا يخشوا منه، أن يشرحوا أن هذه هي الوسيلة الوحيدة للوصول لحل حقيقي للصراع، أن يقولوا: "لا" في وجه كل من قالوا: "نعم" لإٍسرائيل، بمن فيهم بعض الفلسطينيين أنفسهم. ليس هناك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نص على الحق في الرفض. هذه هي الإضافة الفلسطينية للإعلان. على الفلسطينيين، قبل أن يؤسسوا فلسطين الحرّة، أن يؤسسوا الحقّ في رفض نقيضها، لأنه لا يمكن لفلسطين الحرة أن توجد ما دامت إسرائيل على قيد الحياة.