09-مايو-2021

اقتحام الحرم الشريف في المسجد الأقصى (Getty)

قبة المسجد مضاءة. البيوت حوله تتلألأ. زهرة المدائن. والفلسطينيون يدافعون. تعرف هذا الاحتلال كما يبدو في الصور تمامًا. لست بحاجة لأن تتخيّل. الثياب الزيتية الكريهة، التعسف، المعتقلات، الأصفاد، الجموع، البيوت المقدسية التي تشبه حاراتنا القديمة، كل شيء يبدو مألوفًا. الأصوات، اللغة، لغتنا، التعب، التعب من الانتهازيين، وهذا ليس مجرد تعب. الاحتلال، الاحتلال. هذا هو، تمامًا، تعرفه جيدًا. ويبدو مألوفًا أيضًا أن تتعاطف/ تغضب/ تحزن/ تستغرب. في الصور كل شيء يبدو مألوفًا، كما لو أن الحدث نفسه يتكرر كصورة. الفارق أنك لم تعد تسأل نفسك ما الذي يمكن فعله، وأنه بات واضحًا أن أحدًا لم يعد يمكنه أن يتحدث باسمك أو باسم أي أحد، لكنه يتحدث. في الصور، ثمة أصوات أعلى، تعلو تدريجيًا، ولكنها تنخفض، يمتصها المكان، وتختفي.

زهرة المدائن. والفلسطينيون يدافعون. تعرف هذا الاحتلال كما يبدو في الصور تمامًا. لست بحاجة لأن تتخيّل

أنت خارج الصورة. وعلى شاشة الهاتف، يمكنك أن تتابع. أن تمرر إصبعك على الشاشة إلى فوق، فيتحرك الشريط الذي يسيج الصفحة نزولًا، وتبدأ باستعراض أخبار العالم، معتقدًا أنك الترجمة التكنولوجية للإنسان الصالح الذي تحدث عنه هيغل خلال حديثه قبل قرن ونصف عن الصحافة في العالم الجديد.

اقرأ/ي أيضًا: فدائي ترمسعيا والعودة إلى المسألة الفلسطينية

ستكون، أيها الحديث، على بينة بكل ما يجري، حسب ما ينقل لك، وحسب رغبتك في التفاعل. أنت انسان هام. صحيح أنك لا ترمي الأحجار على جنود الاحتلال، لكنك تنجح في ملاحظتها. لا توقف على الحواجز وتتعرض للإهانة، لكنك تتذمر من قسوة الصورة. وهذا ليس ذنبك. لكن لديك الامتياز: كل هذا سينتهي عندما تضع الهاتف جانبًا، إذا قررت ذلك. نظرًا لضيق الوقت قد تتابع نزولًا حتى كعب الشاشة. شاشة الهاتف أو شاشة التلفزيون، لا فارق كبيرًا. كل ما يمكنك فعله هو أن تتابع نزولًا، أن تستعرض العالم:

الصورة الأولى

خبر عن فرنسوا ميتران، الرئيس الفرنسي وعن علاقته الطيبة بالأدب. آخر الاشتراكيين المحترمين في فرنسا، كما يقول الخبر بالفرنسية، فوق بورتريه بالأبيض والأسود للرجل الذي مات في 1996. ليس هناك تفاعل كبير من المعلّقين والمتربصين على "تويتر"، ما قد يجعلك ترتاب من الخبر بحد ذاته، ولن تتوقف عنده أكثر من ثانية، فتتابع نزولًا.

الصورة الثانية

هنا حي الشيخ جراح في القدس، وهذا إفطار يقيمه الفلسطينيون دعمًا لبعضهم البعض. وكونك سمعت عن الحي، وعن همجية الاحتلال التي تفاقمت هناك خلال اليومين الماضيين، قد تتوقف عند الصورة. ونحن هنا نبالغ هنا في التفاؤل، ونتطفل في تحديد مصادرك الإخبارية، كما أننا نبني تصورات قد تكون خاطئة عن اهتماماتك. قد تكون مهتمًا بكرة المضرب. لكن يبقى الأمر حدثًا، مهما كان رأيك. هناك محاولة اقتلاع سكان أصليين، واحلال مُستَعمرين بدلًا منهم، وقد تتوقف على الصورة، وقد تتحمس وتطلق موقفًا ضخمًا، فتضغط على "ريتويت"... قبل أن تتابع نزولًا. وقد تتأثر بأعداد الاعتقالات وبفظاعة ممارسات الاحتلال، لكن ذلك لن يشكّل عائقًا أبدًا من متابعة النزول. لحسن حظك، لم يستخدم أحد بعد مصطلحات ساذجة، فقال "فصل عنصري" بدلًا من احتلال، و"مواجهات" بدلًا من اعتداءات، و"تصعيد" بدلًا من تهجير، وأشياء من هذا النوع.

الصورة الثالثة

ليونيل مسي خائب الأمل، بعد التعادل مع أتلتيكو مدريد في قمة مباريات الليغا الاسبانية. في أحسن الأحوال ستبتسم، ستعبس، لكنك ستفعل ما يفعله الجميع في النهاية: ستتابع نزولًا. انطباع مشابه، عبوس ربما، وربما ابتسامة، لكن مجرد رسوم طفيفة في الوجه. أليس هذه وظيفة الهاتف الذكي؟

الصورة الرابعة

صاروخ صيني طائش، يمكن أن يهطل في أي لحظة، على أي مكان في الأرض. وإذا كنت فلسطينيًا، أو لبنانيًا، يجب أن تعرف أنه لا يوجد شيء اسمه صاروخ طائش. الصواريخ التي ترسلها الطائرات الإسرائيلية دقيقة دائمًا، وقادرة على إسقاط منازلنا وتدميرها دائمًا. قد تضحك هنا، وتتابع. وقد تتذكر، وتحزن، وتتابع رحلتك إلى القعر.

الصورة الخامسة والسادسة والسابعة

يتوقف هذا على اهتماماتك. ستصادف صورًا تتكرر عن تطورات كورونا في الهند، عن القدس، عن ليونيل مسي، وعن "باقة رمضان" وعن فيضانات وسيول في الفيليبين، وهكذا ما إلى نهاية، حتى تغلق التطبيق، إذا لم تقرر التعليق بنفسك، وتذهب إلى تطبيق آخر، وتفعل الأمر نفسه. ولا يعني هذا أننا جميعًا نتعامل مع هواتفنا بذات الطريقة، لكن بالتأكيد هواتفنا جميعها تتعامل معنا بالطريقة ذاتها. وقد يثير خبرًا عن فرنسوا ميتران حشريتك، لأنه "اشتراكي"، في وقت صارت فيه الاشتراكية في فرنسا مزحة. وقد تحزن لأجل القدس، وتعبس لثانية وأنت تشاهد الصورة. وقد تفعل الانطباع نفسه، التجهم نفسه، وربما أكثر، إذا كنت مشجعًا لبرشلونة. هذه الخوارزميات الغبية قد تعرض عليك صورًا حية لتعسف الاحتلال، مباشرةً فوق صور مباراة كرة قدم. يا له من موقف محرج. هل ينفع التجهم في الحالتين؟ وقد تتدخل إدارة "تويتر" وتحذف مشاهد التعسف، فقط في حال كان موجهًا ضدّ الفلسطينيين طبعًا. ليس هناك أن ينتبه أحد في العالم أن هناك شعب ما، يتم اقتلاعه من البيوت والطرقات، ويجب على العالم أن يستمر في تصديق السردية السخيفة عن "هروب الفلسطينيين"، بدلًا من تسمية الاستعمار الاستيطاني باسمه. وقد تصادف تحليلات، فذة إلى درجة أنها قادرة على التحليق مع الصاروخ الصيني الطائش، مثل الحديث عن محادثات فيينا، وعن أزمة نتنياهو، وكأن المرجعية لفهم الأحداث ستبقى مراج الاحتلال لتفسير سلوكه، وليس الفلسطينيين. ذلك رغم أن لا شيء يحتاج إلى تفسير. كل ما تفعله، في بيروت، أو في أي عاصمة عربية أخرى، هو التعاطف. بالأحرى، الاعتقاد بأنك تتعاطف، بينما كل ما تفعله، هو أنك تتابع نزولًا (حذار هنا من الحشو عن تحرير القدس بكلمات معجونة بالغبار والصراخ). لا تتحدث باسم المقدسيين، أما التعاطف، أو الدعم، فليس مجرد ايماءات. إذا كنت مريضًا بالخنوع، بالدكتاتور، بالخطاب الأحفوري عن العبث والانبعاث، لا تتعاطف، ولا تعبس. تابع نزولًا. أخرج من الصفحة تمامًا.

كان التعاطف، في الأدب وفي المعنى الدقيق للكلمة، يعني "التماثل". كان يعني أن تشعر، أو تحاول أن تشعر، تمامًا بما يشعر به الذي تتعاطف معه

اقرأ/ي أيضًا: هل حان الوقت لمحاسبة إسرائيل؟

يقول مافيزولي إنه ولوقتٍ طويل، كان التعاطف، في الأدب وفي المعنى الدقيق للكلمة، يعني "التماثل". كان يعني أن تشعر، أو تحاول أن تشعر، تمامًا بما يشعر به الذي تتعاطف معه. كان منحى وجوديًا، من دون مبالغة في سفسطة الوجودية، وكان يتطلب درجة معينة من الصدق، ومن الاعتراف بحضور الآخر في الوعي، لفترة معينة لعل ذلك يجعل الأمر متسقًا مع علاقة الزمن بالوجود. ولأن الشعور يجب أن ينتهي بفعل ما. لا يعني ذلك أن درجات التعاطف لم تكن متباينة كما هي الحال الأن، لكن التعاطف بحد ذاته خسر تعريفه بفعل الوقت. لا يمكننا أن نفهم كيف صار التعاطف حالة لغوية خالصة. كل هذا يبدو فضفاضًا ولا حاجة له اليوم. إذ يكفي أن تنظر إلى شاشة الهاتف. لكن ثمة فارق كبير بين أن تطرد من منزلك، وتأتي الجرافات لتهدمه أمامك، وبين أن تشاهد ذلك على الهاتف. ستسمع صوت الجدران وهي تنهار، وتشاهد الغبار وهو يتصاعد، وأنت تعرف أنك لا تملك مكانًا تنام فيه بعد الآن، وأن هذا المنزل لم يعد ملكًا لك. لقد جاء أحد ما وأخذه، ولا يمكنك أن تفعل شيئًا بالحق، لأن الجرافات معه، ووسائل الاعلام التي تتحدث عن "تصعيد" وعن "توتر" معه أيضًا. ما يحدث هو أن بيتك يهدم، أو أنك تطرد منه ليأتي آخرون ويحتلونه، ما يحدث هو أنك تُقتَل. وأنت تشاهد الصور الآتية من القدس، وقبل أن تتابع نزولًا، تذكر أن ثمة فارق كبيرًا اليوم بين أن تكون فلسطينيًا، أو أن تكون أحدًا آخر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة فلسطين: القدس.. التاريخ الحقيقي

أبارتهايد كامل الأوصاف