04-نوفمبر-2020

محتجون فلسطينيون في المسجد الأقصى ضد ماكرون (Getty)

ما زالت ردّات الفعل العربية والإسلامية؛ الشعبية والرسمية، تتوالى على تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي جاءت كردِّ فعلٍ على قتل المُدرّس الفرنسي الذي استخدم صورًا مسيئة للرسول محمد (ص) من قبل طالبٍ شيشاني، والتي تحملُ بُعدًا سياسيًا لا عاطفيًا كونها صادرة عن رئيس دولة. قد تبدو الحادثة مُنفصلةً عما يحدث في الشرق الأوسط من إذلال إدارة ترامب الصهيو-مسيحية للعرب عن طريق جرّهم إلى عار التطبيع مع كيان الصهاينة الغاصب في فلسطين دون مقابل، لكن المراقب لتاريخ الصدام بين الشرق العربي الإسلامي والغرب، يعلمُ أنّ الغرب لا يهاجم الشرق ويزدريه إلا في أوقات ضعفه، فقد سيّر الغرب الحملات الصليبية في عز ضعف العالم العربي والإسلامي، وهومجت الإمارات الإسلامية في الأندلس ونُكّل بالمسلمين في ظل حالة الشرذمة التي كانوا يعيشونها بسبب حروب الطوائف. كما هاجم الغرب بلاد العرب وقسّموها عندما ضعفت الدولة العثمانية وخسرت حربها الأخيرة. ويعيشُ العالم العربي اليوم مرحلةً شبيهة، هي الأسوأ في العصر الحديث. والمُلاحظ أن من يتصدّر الدفاع عن الإسلام خلال الأيام الماضية هي دول غير عربية (تركيا، إيران، باكستان، وماليزيا)، بينما وقفت الدول العربية إمّا على الحياد أو ضد تركيا في صراعها الإعلامي مع فرنسا. وهذا ليس بالمستغرب، فأنظمة التطبيع والاستبداد آخر ما تتمناه هو صدام شعوبها مع حُماتها الغربيين.

المراقب لتاريخ الصدام بين الشرق العربي الإسلامي والغرب، يعلمُ أنّ الغرب لا يهاجم الشرق ويزدريه إلا في أوقات ضعفه

من جهتها، عبّرت الشعوب العربية عن غضبها واصطفّت بشكلٍ واضح ضدّ التصريحات المسيئة، بل دعت إلى حملة مقاطعة للبضائع الفرنسية، بينما دعت أنظمة التطبيع العربية – وللمفارقة – إلى مقاطعة البضائع التركية! وسواء ارتبطَ هذا الحدث بالصدام الإعلامي الفرنسي-التركي أم لا، فإن لتوقيته دلالة على قصد هذه الأنظمة في تعزيز تحالفها مع الصهاينة في مواجهة تركيا وإيران؛ الأعداء الجدد لهذا الحلف، بينما لا يعنيها بشيءٍ المواجهة مع الغرب، حتى لو أهان رموز الأمّة.

اقرأ/ي أيضًا: مقاطعة البضائع الفرنسية تفتح ملفًا جديدًا من التصعيد بين أنقرة وباريس

تُشيرُ ردّات الفعل الشعبية العربية الشاجبة لتصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون إلى أنّ شعوب العالم الإسلامي شعرت بالإهانة ولم تسكت عليها، والسؤال الذي يُعاد طرحه مرّةً أخرى: هل الأمر متعلق بالرسوم فقط، أم أن الفضاء الخالي من الديمقراطية والمحكوم بأنظمةٍ استبدادية، استغلَ حادثة الرسوم ليُعبّر عن غضبه أيضًا من حكوماته المتواطئة مع الصهيونية والغرب، ضد المبادئ والقيم المشتركة التي تجمعُ المؤمنين ومنها – أو بالأحرى على رأسها – قضية فلسطين؟ يتوجّب للإجابة على هذين السؤالين، الأخذ بعين الاعتبار أنّ قضية فلسطين دائمًا ما مثّلت كرامة الأمّة العربية والإسلامية، وإحدى قواسمها المشتركة، التي تحظى بإجماع شعوبها.

أظنُّ أنّ الشعوب العربية والإسلامية وجدت مناخًا مناسبًا للتعبير عن غضبها المكبوت على مجملِ ما تعيشه من أوضاعٍ، في ظلِّ تواصل التطبيع العربي-الإسرائيلي المُهين، الذي ترفضهُ غالبيتها بوصفه هزيمة واستسلام للإرادة الصهيونية، مع الإشارة إلى القواسم المشتركة العديدة التي تجمعُ فرنسا ودول التطبيع العربية؛ أهمُّها الانصياع والإذعان للصهيونية، حيث جعلت فرنسا ماكرون معاداة الصهيونية وأفعالها العُنصرية والفاشية جريمةً يُحاسب عليها القانون الفرنسي، وساوت بينها ومعادة دولة إسرائيل ومعاداة الساميّة (اليهود)! ولا أعتقدُ أنّ ثمّة قمعٌ للحريات أكثر من ذلك، إذا ما اعتبرنا مقاومة الظلم والاحتلال والعُنصرية من الحقوق الإنسانية الأساسية. وعليهِ، كيف يُمكن تفسير هذا الانحياز والدفاع عن الصهيونية مهمّا فعلت، مقابل وصف ماكرون للإسلام بالتطرف والقبول بالانتقاص من الرسول الكريم بصورة تمسِّ بمشاعر وإيمان مليار ونصف مسلم حول العالم؟ أعتقد أن الحديث عن حرية التعبير في هذا السياق، يستحيلُ طُرفةً سمجةً.

تلتقي صهينة القوانين الفرنسية مع تغني المطبعين (وقد فعلت الإمارات ذلك حرفيًا) بالدولة الصهيونية الغاصبة لإحدى أهمّ مقدسات الأمّة، والتي تُعذّب وتُنكّل بشعبٍ شقيق. يبدو ظاهريًا أنّه لا علاقة مباشرة بين تطبيع الأنظمة العربية وتصريحات ماكرون، لكن ألا يُقدّم التطبيع العربي غير المبرر إلا بالخنوع والخضوع لإرادة العدو دافعًا لفرنسا ودول الغرب وغيرها في احتقار العرب والمسلمين؟ ألا يتطلّب هذا الخنوع المُذل الذي يُمثّل إقرارًا عربيًا رسميًا بالهزيمة أمام الصهيونية بشقّيها اليهودي والمسيحي الأنغليكاني ردّاتِ فعلٍ شعبية غاضبة؟ لم تحدث هذه الردّات بالحجم المطلوب وقت التطبيع، لكن ربما تحملُ الحالية في بعضٍ منها غضبًا على هذه الأنظمة العميلة للغرب، التي تنازلت عن مقدسات الأمة وتخاذلت بل تحالفت مع أعدائها. وفي المقابل هل يستحقُ العرب والمسلمين الاحترام بعد تطبيعهم خلال ذروة التعاطف الشعبي العالمي مع قضية الشعب الفلسطيني، ونشاط حركة (BDS) التي نجحت في الحشد الأممي للنضال ضدّ الصهيونية؟ بالطبعِ لا.

يدلُّ الحراك الشعبي في العالم الإسلامي بعد تصريحات ماكرون، على أن المسلمين يشعرون بوحدة المصير والاستهداف لأسس عقيدتهم ورموزهم، وهذا أمرٌ يدعو للطمأنينة بأنّ الأمل لم يُفقد بعد؟ فبعد سقوط الجدار القومي العربي الذي مثّلَ درعًا للقضية على مدى العقود الماضية، ها هو الجدار الديني الإسلامي يُشيّدُ وبقوة للذودِ عن مُقدسات الأمة، الأمر الّذي يدلُّ على مركزية البُعد الديني في العقل العربي وتصدُّره للمشهد في ظلِّ غياب وتراجع البعد القومي إثر انحسار حركة التحرّر القومية العربية، والتي ثبت في الفترة الأخيرة أنّها لم تعد قادرةً على النهوض بعد تلقّيها الضربات المتتالية. وتؤكّد ردّات الفعل ذات الطابع الإسلامي أنّه حتّى في حال نجاح التطبيع العربي-الإسرائيلي وفق الخطّة الأمريكية الصهيونية، وانسياق دول عربية أخرى إليه، فإنّ ذلك لن يستمر طويلًا، وسيسقط كما سقطت من قبله أحلافٌ أخرى حاولت دمج الكيان الغاصب ضمن منظومة المنطقة الأمنية والسياسية.

تُشيرُ ردّات الفعل الشعبية العربية الشاجبة لتصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون إلى أنّ شعوب العالم الإسلامي شعرت بالإهانة ولم تسكت عليها

إن عوامل تفجير الصراع من جديد رغم خفوته المؤقت، ما زالت قائمةً وعلى رأسها العامل الديني، إذ مهما حاولت الأنظمة العربية الاستبدادية المُطبّعة وحلفائها من صهاينة محليين أو أمريكو-أوروبيين، شطبَ البُعد الديني للصراع وتضليل الشعوب العربية، إلا أن هذا الصراع سيعود بقوّة مع أدنى تصريحٍ غربي يستفزّ المشاعر الدينية الإسلامية. وبعيدًا عن تصريحات ماكرون الحالية، فإنّ الصراع الغربي مع العرب والمسلمين من وجهة نظرٍ غربية تاريخية، يحملُ في كثيرٍ من وجوهه طابعًا دينيًا وفقًا للمصطلحات المستخدمة، مثل: أرض الموعد، الألفية السعيدة، ظهور أو عودة المسيح يهوديًا ومسيحيًا، ومعركة هرمجدون، وربط عودة المسيح بتهجير اليهود إلى فلسطين بحسب الفكر البروتستانتي اللوثري. وفي جوهرها، لا تختلفُ الصليبية الغربية الاستعمارية عن الصهيونية، فالأولى قامت قبل ألف عام بغزو بلاد الشام وتركيا باسم استعادة قبر المسيح والأرض المقدسة من (الكفّار) المسلمين، والثانية قامت برعايةٍ وتمويلٍ وحماية غربية، استنادًا إلى مسميات "أرض الموعد" وأرض "يهودا وإسرائيل"، دون أدنى اعتبارٍ لحقوق سكّان الأرض الأصليين من الفلسطينيين وجيرانهم العرب.

اقرأ/ي أيضًا: ملف خاص| منبوذو الجمهورية.. حوارات بشأن مسلمي فرنسا

يستبعدُ الكثيرون العلاقة التي يُسائلها عنوان المقال، إذ إنّه منطقيًا لا وجود لعلاقة بين التطبيع والوَهن الذي أصاب الأمّة وتصريحات ماكرون، فحدث الرسوم المسيئة للرسول ليس الأوّل من نوعه، بل يتكرّر منذ مدة وفي عدة دول أوروبية، وردّات الفعل هي نفسها من المسلمين مع تفاوتٍ في الحدّة. ربما يرى البعضُ أنّ الربط بين الحدثين يدخُل في باب التمنيات والأمل، لا الحقائق، لكن الأمر الآخر الذي لا شكّ فيه، هو أن إيران وتركيا لعبتا وبذكاء على استغلال ضعف العرب لتتزعما العالم الإسلامي وتُظهر جبهة أعداءهما المُتمثلة بأنظمة التطبيع في موقع العميل المُهادن للغرب، مما دفع بعضها لإطلاق تصريحاتٍ هزيلة لا ترقى لمستوى الحدث. إن الرسائل التركية والإيرانية التي وجّهت في جوهرها إلى الرأي العام المسلم، وضعت أنظمة التطبيع في الزاوية، ففي بعض خطاباتهما أظهرتا عجز تلك الأنظمة على الاحتجاج على حُماتها وهم يمسّون بالرموز والمقدسات.

يتمحوّر الرأي العربي والإسلامي منذ عقودٍ طويلة، حول أنّ الصراع على فلسطين يرتبطُ بما هو أبعد من جغرافيا المكان؛ أي بالصراع الحضاري بين الشرق المسلم والغرب "الصليبي" الذي بدأ منذ القرون الوسطى ولم ينتهِ بعد، فعبارة "ها قد عُدنا يا صلاح الدين" التي قالها الجنرال الفرنسي هنري غورو عند قبر صلاح الدين في دمشق، وقول الجنرال إدموند اللنبي بعد احتلال القدس "اليوم انتهت الحروب الصليبية"، يدلّان على البعد الديني للصراع من وجهة النظر الغربية، فمنذ البدء، اكتسب هذا الصراع طابعًا دينيًا لاهوتيًا. وهذا ليس بحاجة إلى البرهنة فالغرب المثالي العلماني "العقلاني جدًا" وبتلفيقٍ تاريخي، يرى أنّه من حق اليهود "العودة إلى وطنهم" بعد ألفي عام، لكنه لا يرى بأحقية عودة اللاجئين الفلسطينيين المُهجّرين إلى وطنهم.

التطبيع المُذل والمهين الذي تمارسه بعض أنظمة العرب اليوم، يعني أنها تتخلى عن عقيدتها الدينية وقوميتها العربية

مما سبق، وإجابةً على سؤال المقال، أظنُّ أنّ التطبيع المُذل والمهين الذي تمارسه بعض أنظمة العرب اليوم، يعني أنها تتخلى عن عقيدتها الدينية وقوميتها العربية، وتصريحات ماكرون وبعض الساسة الأوروبيين تعني وبكل بساطة أنهم ومن خلفهم الغرب العنصري الاستعماري، يعتقدون بأنّ التطبيع العربي اعترافٌ بهزيمة الإسلام والمسلمين فكرًا وإرادةً ومعتقدًا، فالتطبيع هو اعتراف بأن الإسلام كان على خطأ، إذ كيف يكون الإسلام صادقًا، بينما يعترفُ زعماء وأئمة المسلمين في دول التطبيع بيهودية الأرض المقدسة؟ وكيف نستغربُ بذلك مطالبة ماكرون بـ"إصلاح الإسلام"، بينما يتحالفُ بعض الزعماء المسلمين مع الصهيونية لوأدِ أساسيات الإسلام؟ وما القبول بما يسمى بالإبراهيمية المُلفّقة، إلا اعترافٌ من قبل قادة الإمارات ومن يسيرُ في موكبهم، بأنّ الإسلام عقيدة مهزومة، من الأولى استبدالها.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| فرانسوا بورجا: مسلمو فرنسا يقاومون وصاية مزدوجة

لم تأتِ تصريحات ماكرون من فراغ، بل من من رواسب ومدارس فكرية لاهوتية تنظُر إلى ضعف دول المسلمين وعلى رأسها العرب وقبولهم بالذل، على أنّه انتصارٌ للعقلية الاستعمارية الغربية، وتتممةً لعملية صهينة المنطقة بجعل يد دولة الصهاينة هي العليا. ألم يصرّح نتنياهو قبل أيام بأنّهم يغيّرون المنطقة؟ والتغيير في جزءٍ كبيرٍ منه، يتمثّل في تغيير العقل العربي، وقولبته في إطار التابع الّذي لا يُمكنه التّكلم، بتعبير غاياتري سبيفاك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار| نبيل واكيم: اللغة العربية في فرنسا تابوه مزدوج

حوار| سلام الكواكبي: العزلة رقصة تحتاج إلى طرفين