31-مارس-2020

فريق للنسج في مستعمرة صهيونية 1937

هناك من يكتبون صفحات التاريخ، وهناك من يصنعونها بعدساتهم؛ يقول أرسطو "إن التفكير بدون صور مستحيل"، ويستمد التفكير الأيديولوجي جذوره من داخل مفهوم الصورة والتفكير بالصورة. فالصور عبارة عن بيانات سياسية واجتماعية وثقافية واضحة، لذلك عمدت المنظمات الصهيونية على توظيف الصورة الفوتوغرافية وأرشفتها في مشروعها لتحقيق حلم "الأرض الموعودة" وترسيخ مقولة إن فلسطين "أرض بلا شعب".

الصورة لغة استعمارية!

اعتمدت الدعاية الصهيونية أثناء تهجير الفلسطينيين على الفن الفوتوغرافي لإقناع اليهود حول العالم بالمجيء إلى فلسطين على اعتبارها صحراء لا ناس فيها. فأوائل المصورين الذين وفدوا إلى فلسطين صوروها في بداية القرن التاسع عشر على أنها "أرض بلا شعب".

اعتمدت الدعاية الصهيونية أثناء تهجير الفلسطينيين على الفن الفوتوغرافي لإقناع اليهود حول العالم بالمجيء إلى فلسطين

تجذّرت الممارسة اليهودية في مجال التصوير الفوتوغرافي في الثلاثينيات من القرن الماضي، وتطورت بسبب موجة الهجرة الكبيرة من ألمانيا التي وصلت إلى فلسطين في أعقاب صعود الحزب النازي إلى السلطة من ناحية، وبسبب تصعيد الصراع بين اليهود والفلسطينيين.

اقرأ/ي أيضًا: ما بعد إسرائيل.. تشريح الذات الصهيونية

بدأت المؤسسة اليهودية في إدراك الإمكانات المجسدة في التصوير الفوتوغرافي، وإدراك الحاجة الوطنية المتزايدة المتمثلة في المواد التصويرية لتوظيفها على نطاق واسع لتعزيز الأهداف "الوطنية" لليهود. كان أحد الجوانب هو إنشاء لغة استعمارية تأثرت بالتصوير الاستعماري الغربي والتي خدمت المؤسسة الصهيونية ومشروعها.

كان للتصوير اليهودي دور رئيسي في بناء صورة "اليهودي الجديد" في الأرض الجديدة، كذلك لتقديم وعرض صورة مغايرة عن الفلسطينيين. فأدرجت المؤسسة اليهودية أو ما يسمى "إستابلشمنت" رموزًا ستصاحب الروح الصهيونية لسنوات عديدة قادمة، والتي ستؤثر على تمثيل عرض وتأريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لسنوات عديدة.

لعب التصوير الفوتوغرافي وظائف وأدوار مؤثرة في المجال العام وعلى النطاق الاجتماعي والسياسي، حيث ساعد التصوير اليهودي بجميع مظاهره المتنوعة في تشكيل المصطلحات الاستعمارية والمصطلحات الوطنية للصهيونية، وكان وسيلة لتثبيت أفكار كالوطنية والجنسية والأمة بطريقة بصرية. كذلك كان للتصوير الفوتوغرافي تأثيرًا مهمًا على بناء الصور والرموز والأساطير كجزء من بناء وجهات نظر عالمية داعمة لمشروعهم وللترويج للفكرة الصهيونية والتي رسخت المجتمع اليهودي فيما بعد.

بروباغندا الصورة

استخدمت المؤسسة اليهودية الإمكانات الكامنة في مجال التصوير الفوتوغرافي لأغراض الدعاية ولإيصال المثالية الصهيونية بصريًا. ونتيجة لذلك توسعت أقسام التصوير الفوتوغرافي في مكاتب الإعلام التابعة للمؤسسة الصهيونية بشكل كبير، وتم تمويلها من قبل صناديق التبرعات القومية والوكالات اليهودية المختلفة.

ساعد التصوير اليهودي بجميع مظاهره المتنوعة في تشكيل المصطلحات الاستعمارية والمصطلحات الوطنية للصهيونية

فكان يعرض التصوير الفوتوغرافي الجنود اليهود في المعارض في أنحاء العالم بأنهم "أمة في أرض القتال والعمل"، وكان نهجًا دعائيًا للمؤسسة الصهيونية حيث عمل معظمهم في خدمة المؤسسات الوطنية الصهيونية.

اقرأ/ي أيضًا: كتاب المؤرخ الراحل قيس ماضي فرّو.. عن دروز فلسطين في المخططات الصهيونية

وكان لهذا الدعم تأثير لافت على كسب التأييد العالمي بفضل البروباغندا الناجحة التي اتبعتها المؤسسات اليهودية. فكانت ترسل المواد الصحفية المجمعة إلى الخارج بهدف استخدامها في المحاضرات والملصقات والبطاقات البريدية والطوابع بغية التسويق للقضية في الإعلام الأجنبي في الدول شتى ومن أجل دفع اليهود إلى الهجرة إلى فلسطين.

لطالما تطلب التاريخ البصري الإسرائيلي محو الفلسطينيين. فقد نشرت المكتبة الوطنية الإسرائيلية أربعين صورة جوية التقطها أحد المصورين من الطائرة عام 1937 لما وصفته بـ "دولة ما قبل إسرائيل" وتعزز هذه الصور الأسطورة الصهيونية للأرض كواحة غير مستغلة تنتظر اليهود للعمل والسكن فيها.

الصورة تحكي!

كانت الصور الفوتوغرافية تحكي عن سرديات للواقع أو قصص ومقالات تشرح وتفسر الصور مضامينها، وتنقل إلى مخيلة المشاهد البعيد جدًا طبيعة الحياة في الأرض الجديدة. تم تصوير الأشياء والمشاهد والأشخاص والأخلاقيات العامة بزوايا مختلفة مؤثرة ومن وجهة نظر أحادية. وتم ربط الماضي بالفلسطيني البدائي الرجعي، بينما الحاضر والمستقبل تم ربطهما باليهودي التقدمي العصري والمتحضر!

ومن الأمثلة: صور جنود فخورون بوطنهم الجديد، جنود يسيرون، صور فلاحون يقطفون المحاصيل، صور عمال بناء يشيدون الأرض الجديدة الخالية من السكان، صور أناس ضاحكون وابتسامات عريضة تشي بالفرح كأنما هم في الجنة، صور حراثة الأراضي، صور المعدات الزراعية والصناعية، صور الاحتفالات والفتيات يقطفن العنب بفرح، صور المستوطنات وأبراج للمراقبة للحماية والدفاع عن النفس في وجه "المعتدين" لطمأنة الوافدين الجدد.

ربط المصورون الصهاينة الماضي بالفلسطيني البدائي الرجعي، بينما الحاضر والمستقبل باليهودي التقدمي العصري والمتحضر!

وبفضل البروباغندا رسمت المؤسسة اليهودية صورة بطولية نمطية لليهود الجدد في أرض فلسطين حتى اقتربت من الميثولوجيا والأسطرة في تصويراتها. وأيضًا تصوير الحركات العمالية الكادحة لتحفيز اليهود للانضمام إلى وطنهم المنشود، وبذلك شيد اليهود ما يمكن تسميته يوتوبيا الأرض الموعودة.

اقرأ/ي أيضًا: هوامش بدائية عن السينما الصهيونية

اعتقدت القيادة الصهيونية أنه من أجل إرساء سيطرتها على البلاد الجديدة في فلسطين، ومن أجل كسب دعم الرأي العام الدولي لإقامة دولة يهودية مستقلة، يجب عليها إنشاء نظام لا لبس فيه والترويج والتسويق لقضاياها. فاستخدمت البنية التحتية التي أنشأها التصوير الأوروبي في القرن التاسع عشر، ووظفتها في تثبيت تصورها للأرض المقدسة على أنها مستوحاة من الكتاب المقدس ومرتبطة بالعهد الجديد.

الصورة المقارنة!

اعتبرت الصور الفوتوغرافية أدلة على التقدم والتطور حول العالم حيث تم تصوير الرواد اليهود الأوائل وهم يعملون في التربة وبناء الطرق والبلدات. كما شكّلت الصور مفردات جماعية للصهيونية الجديدة مانحة العاملين اليهود صفات مجيدة ورومانسية.

أصبح التصوير الفوتوغرافي لليهود مقرونًا بالعمل لصالح الأيديولوجيا السائدة للمؤسسة الصهيونية، وتلبية للاحتياجات الوطنية وللقضية الخاصة بهم. وكان يمكن تسمية هذه الأيديولوجيا "صناعة الوهم"، أو صناعة كل ما هو زائف ومناقض للواقع الحقيقي على الأرض. فالصور كانت تظهر دومًا السعادة والوسامة والفرح والعمل الجاد وتوثيقه على أن الحقيقة المطلقة.

وتم تصوير فلسطين على أنها أرض لم يتغير فيها إلا القليل جدًا، وهي أرض متخلفة وتعاني من العوز والفقر. أرض غريبة وساحرة في الشرق، قاحلة مهجورة ومهملة تنتظر الإصلاح، أرض بدائية، مما وفر قوة سياسية كبيرة للمؤسسة الصهيونية خاصة وأن المخوّل حل النزاع بين الشعبين هي الدول الغربية.

سعوا إلى تعريف اليهودي الجديد ومقارنته بالآخر الشرقي المتخلف. ليس فقط من خلال خلق صورة حديثة، أي من خلال مقارنة المعرفة بين الطرفين، بل أيضًا عبر إنشاء صورة أخلاقية في معاملتهم لذلك الآخر.

في مقابل أدلجة الفوتوغرافيا الصهيونية، كان التصوير الفوتوغرافي الفلسطيني فرديًا دون أي توجيه سياسي

ففي المعارض الفنية اليهودية – وهي خليط من الصور الفنية الدعائية والتجارية – كانت هذه الصور تشير إلى تطور البلاد من الناحيتين الكمية والنوعية نتيجة الاستيطان (صور مقارنة: قبل/بعد) مثل ارتفاع دخل الفرد وارتفاع عدد السكان وزيادة مساحة الأراضي الزراعية. في الوقت الذي شطب وجود أي صراع مع السكان الفلسطينيين، وحذف حقيقة أن الاستيطان اليهودي يسيء إلى الشعب الفلسطيني. وكل ذلك بحسب السياسة المؤسساتية الآحادية للصهيونية ومشروعها.

العيش المشترك!

وكما صورت الدعاية اليهودية علاقات التعاون مع الفلسطينيين ودأبت على التشديد على قيام علاقات الجوار مع الآخر الفلسطيني. فالعديد من الصور الفوتوغرافية كانت تظهر علاقات حسن الجوار والانفتاح والعيش المشترك بين الشعبين والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي قدمها اليهود لجيرانهم الفلسطينيين.

اقرأ/ي أيضًا: سقوط توماس فريدمان.. الصهيونية في مديح ابن سلمان

وكانت الصور تعزز رسالتهم على الشكل الآتي: صور اليهود يعلّمون الفلسطينيين الوقاية والعلاج من البعوض الحامل للملاريا، صور الفلسطينيين يمنحون اليهود الماء، صور زيارات متبادلة، فلسطينيون يساعدون في إقامة سياج لمستوطنة جديدة، فلسطينيون يساعدون على بناء تلك المستوطنة، فلسطينيون يؤدون التحية للجنود اليهود.

التصوير الفلسطيني!

إلا أن الفلسطينيين لم يستغلوا التصوير الفوتوغرافي في حملتهم للترويج الذاتي لرؤيتهم في الصراع الدائر. فالتصوير الفوتوغرافي الفلسطيني كان تصويرًا فرديًا دون أي توجيه سياسي (صور استديو، صور عائلية، مناظر طبيعية، أحداث خاصة) في مقابل التصوير اليهودي المنظم المؤسساتي والموجه. فقد كان المصور الفلسطيني مصورًا توثيقيًا غير نشط سياسيًا ويعمل في الغالب في ظل ظروف مستقلة خاصة أو تجارية.

وازدهر التصوير الفوتوغرافي في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، فأصبح وعي المصورين الأفراد أكثر حدة، حتى إذا كانوا لا يزالون يعملون بطريقة مستقلة وغير منظمة سياسيًا إلا أن الكثير منهم بدأ بتوثيق الصراع بين الشعبين وتداعياته والذي اشتد في عام 1948.

وفي أواخر الأربعينيات بدأ العديد من المصورين الفلسطينيين في التعبير عن موقف سياسي أكثر وضوحًا، والتعمق في الصراع اليهودي الفلسطيني وتوثيق آثاره واستخدامه في معسكر الإعلام الفلسطيني. ثم تم تكثيف هذا الاتجاه خلال السبعينيات، وبشكل رئيسي بعد الانتفاضة الأولى، عندما أصبح التصوير الفوتوغرافي أداة تسويق وأداة لبناء صورة فلسطينية في أيدي القيادة الفلسطينية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بوب ديلان.. في مهب الصهيونية

إيلان بابيه يفضح "فكرة إسرائيل"