26-نوفمبر-2023
شارلي شابلن في مشهد من فيلم الدكتاتور العظيم

شارلي شابلن في مشهد من فيلم الدكتاتور العظيم (Getty)

لم يتردد تشارليز سبنسر شابلن، الذي سيُعرف فيما بعد بـ"شارلي شابلن"، بتحويل البؤس والفقر المدقع الذي عايشه إلى مرجعية تمدّه بكل ما يحتاجه ليُضحك الآخرين. كان الماضي البائس لهذا الكوميديان الضئيل أشبه بخزانة، تضيق بالألم، يعود إليها بين وقت وآخر ليستخير منها أزياء ومواضيع ووجوه ثم يعيد رتقها وترميمها بالسخرية الصامتة، فتتحول إلى شخوص جاذبة للضوء ومثيرة للضحك.

لم يكن هذا الصعلوك المتشرد الذي صار ملكًا متوجًا للسينما الصامتة، سوى ذلك الطفل البائس الذي قست عليه شوارع لندن الباردة والموحشة وابتلعته ملاجئها. الطفل الذي استعصى عليه دفء العائلة وتماسكها، فعاش يتيمًا بوجود والده السكّير الذي نال منه الكأس والإحباط، وخيمت عليه صورة الممثل الفاشل، فقضى شابًا. فيما عاشت والدته بقية حياتها في مصح عقلي.

لم يفقد شارلي شابلن إيمانه بنفسه، ولم يكن يملك سوى ذلك الإيمان الذي غذّى به حلمه بأن يصبح أعظم ممثل في العالم

تحوّلت هذه التراجيديا بالنسبة إلى شابلن، بائع الجرائد وماسح الأحذية، إلى محفظة هائلة سوف يفتحها في المستقبل ويعيد استثمارها في خلق شخصيات ومواقف ستصبح تاريخًا للنقطة الحقيقية، التي انطلقت منها السينما التي نعرفها اليوم.

يذكر شابلن في كتابه "قصة حياتي" أنه لم يفقد ولو لمرة واحدة إيمانه بنفسه، وأنه لم يكن لديه سوى ذلك الإيمان الذي غذّى به حلمه بأن يصبح أعظم ممثل في العالم. كما يصف في الكتاب خُطى ذلك الصبي الحالم الذي لم يكن يجد ما يسد به رمقه، تائهٌ متشرد في شوارع لندن، لكنه حالم يردد دومًا: سوف أصبح أعظم ممثل في العالم.

وفي سبيل ذلك، تقلّب شابلن في مسارح لندن غير الرسمية وفي فرق الهواة يزاول التمثيل، والكثير من المهن إلى جانبها، لكي يظل متمسكًا بحلمه. ولم تغب عن ذهنه صورة والدته وهي مستندة إلى الشباك تمثّل له، وهو طفل طريح الفراش، ما يحدث في الخارج. وربما أراد أن ينسب لوالدته الفضل في تلك الخفة والبراعة واستخلاص الضحك من قلب المأساة، فتلك المشهدية السحرية كانت تحدّث له وأمامه، وهم يعيشيون في غرفة حقيرة بأثاث بالٍ وتدفئة شبه معدومة.

لقد ظلت تلك الصور حارسًا لموهبة شابلن الذي برز في لندن كممثل كوميدي بارع، بل وأحد أمهر المضحكين فيها. وذات يوم، ساقته الأقدار في رحلة مسرحية مع فرقته إلى أمريكا، حيث بدأت خطوات الصعلوك المتشرد الحقيقية في طريق المجد والشهرة والنجومية.

مسرحة السينما

اكتشف شابلن في أمريكا أن الجمهور الأمريكي لم يكن يتفاعل مع النكات الإنكليزية الرصينة والمصاغة بإتقان وتلميح، فعاد إلى خزانة الماضي واستحضر صور والده المخمور، ليقدّم شخصية عجوز مخمور يقع في المتاعب، وقد لاقت تلك الشخصية استحسان الأمريكيين ولفتت إليه أنظار منتجي السينما الصامتة، حيث تلقّى بعد ذلك عرضًا للتمثيل في السينما كبديل عن ممثل آخر.

كانت السينما آنذاك حدثًا سحريًا بحد ذاتها، وبصرف النظر عن المواضيع التي تقدمها. وقد كان الإغراء العظيم الذي تمنحه للعالم يتجسد في تصوير الحياة وهي تتحرك أمام الجمهور، حتى لو كان ذلك بلا معنىً وصوت.

لم يرق ذلك بالطبع للمثل المسرحي، إذ كان مصرًا على أن الفيلم لا بد أن يحتوي على قصة وأحداث متصلة بدل المطاردات المفتعلة التي ليس لها أي معنى، فقد كان الفيلم آنذاك عبارة عن حدث بسيط: شاب يسرق تفاحة مثلًا، فيطاره الشرطي وتتسع دائرة المطاردة شيئًا فشيئًا وتورِّط معها المزيد من المُطَارَدين والمُطارِدين حتى نهاية الفيلم.

استعار شابلن فن الإيماء، وطوّر كتابة القصة إلى سيناريو صامت، لينتج حكاية سينمائية صامتة تقوم على الشخصية. لكن الارتجال ظل مسيطرًا على الصناعة إلى حد كبير، فاستديوهات الإنتاج كانت تتعاقد مع الممثلين ذوي الخبرة الكبيرة في الارتجال، وهو ما كان يتقنه شابلن.

وفي صدفة غريبة، وبطريقة غير محسوبة، طُلب منه على عجل أن يرتجل شيئًا في سياق مشهد كان يصوَّر في استديوهات "كيستون"، فذهب إلى غرفة الملابس واختار أزياءً متناقضة وساخرة في تناقضها. ومن هنا ولدت شخصية الصعلوك المتشرد التي ستصبح أيقونة عالمية. وقد ذاع صيت المتشرد الصعلوك بحيث ضاعف من موقف شابلن المناهض للسينما السطحية الخالية من القصة والشخصية، وسمح له بكتابة وإخراج وتمثيل أفلامه.

احذروا المهرج

هددت السينما الناطقة وجود الصعلوك المتشرد، وخيّم الكلام وسحر ارتباطه بالصورة على صناعة السينما كلها، كما اتجهت الاستديوهات والمنتجون لمواكبة هذا التطور العظيم، بينما ظل شارلي متمسكًا بالصمت، ومراهنًا على جودة أفلامه وفرادتها، ولم يلق بالًا كثيرًا لهذا التطور العظيم في صناعة السينما، بل استمر في إنتاج أفلام صامتة استطاعت المنافسة وحافظت على رونقها وشعبيتها رغم شيوع الأفلام الناطقة.


شارلي شابلن في مشهد من فيلم الدكتاتور العظيم

وقف شارلي لوحده في وجه هذه الموجة، وأنتج عدة أفلام صنفت ضمن قائمة أهم الأفلام في تاريخ السينما، منها فيلم "السيرك" الذي عُرض عام 1928، أي بعد صدور أول فيلم ناطق. وفيلم "أضواء المدينة"، ثم "أزمنة حديثة" الذي أنتجه وأخرجه شابلن في ثلاثينات القرن العشرين.

ومع انتصار الثورة البلشفية وتمدِّد الفكر الشيوعي، خصوصًا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، شعر الأمريكيون بخطر الفكر الاشتراكي، واتسع نطاق الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو. وقد قادت السياسة الأمريكية المرتابة السياسيين والمناهضين المتطرفين للفكر الاشتراكي، إلى التعامل مع أفلام شابلن بوصفها أفلامًا تكرّس وعيًا اشتراكيًا خبيئًا من خلال تنميط صورة المتشرد المثير للتعاطف في مواجهة خصومه ومطارديه اللذين هم في معظم أفلامه من رجال الشرطة والأثرياء، ما يكرّس صورة سلبية تتمدد خلسةً في الوعي الأمريكي ضد الرأسمالية بطريقة ناعمة، ويشجِّع من جانب آخر على تبني الفكر الاشتراكي حسب تفسيراتهم.

أدى هذا التفسير والهجمة الحكومية التي تعرّض لها شابلن، وقادتها "المخابرات المركزية" (إف بي آي)، إلى اعتباره أحد أخطر العوامل المحفزة على تقبل الفكر الشيوعي ونشر الوعي الاشتراكي في البلاد. وبالطبع، لم توفر الأجهزة الحكومية أي فرصة للنيل من صورته وتشويهها في عيون جمهوره الواسع في أمريكا وخارجها إلى الحد الذي استثمرت فيه الـ"إف بي آي" الصورة الرمزية للزعيم النازي هتلر لإيجاد أوجه شبه بينهما عبر مطابقة السياقين اللذين أوصلاهما إلى القمة: ماض بائس، حقد طبقي، وطفولة معذبة. والنتجية مجرم لا يرحم، ناهيك طبعًا عن الشاربين المتشابهين.

خلقت المؤسسات الأمنية والاستخبارية الأمريكية آنذاك زخمًا ساهم إلى حد بعيد في انحسار شعبية شابلن عبر إثارة فضائح زيجاته وحياته المتطرفة جنسيًا، ليصبح حينها من أكثر الشخصيات المكروهة في هوليوود. وللمرة الأولى، يصبح ماضي شابلن الذي أخذه بيده إلى قمة النجومية والمجد، أيديولوجيا خطيرة لا بد من مواجهتها وتحطيمها.

وبعد أن رفدت صور البؤس في مسارح وملاجئ وحارات لندن شارلي شابلن بعشرات المواضيع والقصص، وأظهرت للعالم شخصية الصعلوك المتشرد الأكثر شعبية وانتشارًا حول العالم؛ أصبحت مفردات مؤدلجة يستخدمها المهرج الخطر لنشر فكر سياسي معاد وهدّام. لقد نالت السياسة من تلك التراجيديا الشخصية التي صنعت مسيرة الكوميديان العظيم، وحوّلتها إلى دليل لإدانته إثبات على عمالته وإنكار الجميل والفضل الذي قدمته له الولايات المتحدة.

وفي المقابل، حاول شابلن نفي تلك التهم، وكرر في أكثر من مناسبة أنه لم يقرأ كتابًا واحدًا عن الشيوعية. لقد أراد أن يحمي ذاكرته المعذبة وينزع عنها تلك الحمولة السياسية الظالمة. أراد أن ينبّه الى أن انحيازه للفقراء في أفلامه وسخريته من قسوة العالم المادي وطحنه للفقراء ونبذهم، هو انحياز إنساني وليس سياسي. لكن ذلك لم يكن مقنعًا كفاية، بل وقاد في النهاية إلى طرده من أمريكا والنيل من إرثه وماضيه الفني الغني.

لقد نالت السياسة من التراجيديا الشخصية التي صنعت مسيرة شارلي شابلن، وحوّلتها إلى دليل لإدانته وإثبات عمالته للشيوعيين

ولم تكن صورة شارلي شابلن وهو على مسرح "الأوسكار" لتسلم جائزتها الفخرية عن مجمل أعماله ومساهمته في عالم الصورة المتحركة صورة بطل، وإنما ضحية تم إقصاؤها بعناد وتكبر سياسي. ولم تكن الدعوة اعترافًا بالذنب ولا رجوعًا عن الخطأ، بل استحواذًا نهائيًا على إرث شابلن، وإعادة دمج لصورته بصورة أمريكا الجديدة القوية المتسامحة والمرموقة التي لا يمكن لها وهي تزايد على العالم بحرية التعبير والرأي والفكر، وبالأخص المعسكر الشرقي، أن تُبقي ذكرى الإقصاء تلك وصمة عار في تاريخها.

لم تحاسب أمريكا نفسها على ذلك التجني، وإنما أرادت إعادة توظيف صورة شابلن المنادية بالحريات وقيمة الفرد المفقودة في المعسكر الشرقي لمواجهته والمزايدة عليه. ولو كان شابلن سياسيًا اشتراكيًا حقًا كما اتُهم، لما قبل تلك الدعوة. لكنه كان ممثلًا عظيمًا فُسّر بطريقة سياسية مهووسة ومرتابة.