13-سبتمبر-2023
رفيق سبيعي ونجاح الموجي

رفيق سبيعي ونجاح الموجي (الترا صوت)

قدّمت وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها المختلفة فرصة كبيرة لعودة ازدهار فنونٍ أدائية كانت على وشك الاندثار، أو أنها اندثرت حقًا منذ ما لا يقل عن ثلاثة عقود. 

ومثلما اندثر فن الحكواتي وانحصر استخدامه فقط في المساحات التجريبية المسرحية، وبعض الوضعيات السياحية والمتحفية، ومثله فن السامر المرتبط بطقوس الحصاد وبيئات المجتمعات الزراعية؛ كذلك أخذت فنون أخرى بالاندثار التدريجي مثل فن المونولوجست، الذي انتعش في النوادي الخاصة، والكازينوهات، والملاهي. وكانت هذه الأماكن هي المكان الطبيعي الملائم لازدهار النكتة الطبقية، والنقد الاجتماعي والسياسي اللاذع.

تتقاطع التجربة الكلاسيكية في فن المونولوجست مع فن الستاند آب كوميدي في السياق العربي بمكان، وتفترق عنه في مكان آخر

ومع أن هذا الفن سيق به إلى استديوهات التلفزيون والإذاعة والمسارح العامة ، وأُعيد توظيفه بطريقة أكثر تهذيبًا ومراعاةً لاتساع رقعة الجمهور المتلقي، لكن النظر إليه كفن شعبي ظل محل تساؤل.  فهو  ينتمي أكثر إلى مناخات الترفيه الخاصة بطبقة الأثرياء وبعض شرائح الطبقة الوسطى ونواديها وكازينوهاتها. ويُستدلُّ على ذلك، أولًا، بشرط العرض القائم على الفرد الواحد، وثانيًا، على نوعية الجمهور المتلقي ونوعية النكات الموجهة إليه التي تتسم عادة بطابع طبقي، يستخدم للسخرية تقنيات يفهمها ويتفاعل معها أبناء هذه الطبقة، ولا تكون عادة مثيرة للضحك بالنسبة إلى أبناء الطبقات الأدنى. 

أخذ هذا الفن باكتساب ملامح شعبية من خلال الحفاظ على الشكل، وتغيير الأسلوب للتوجه إلى مختلف الشرائح، فتم استبعاد النكات بشكل ملحوظ واستبدالها بالطقطوقة والأغنية السياسية والاجتماعية الساخرة. كما تم تغيير شكل العرض من المواجهة المباشرة مع الزبائن في الملاهي والحانات، إلى استخدام أدوات شرطية بسيطة في الأداء والأزياء خلال عرض المونولوج الغنائي على التلفزيون أو المسرح العام، بينما يسقط هذا الشرط كليًا في الإذاعة، ويتم بث المونولوج عبر الأثير مسموعًا فقط.

وعلى الرغم من أن النقاشات حول المشتركات بين فن المونولوجست وفن الستاند آب كوميدي مازالت محدودة وشديدة التخصص، وتخص فقط المتابعين والمهتمين، لكنها قد تجيب ولو مرحليًا عن السؤال المطروح حول استلاب التجربة العربية بالكامل للنمط الأمريكي والأوروبي، في ترسيخ هذا الفن عربيًا، أم أن لهذا الفن جذور كلاسيكية عربية؟

التجربة الكلاسيكية العربية في فن المونولوجست تُظهر تقاطعًا جوهريًا مع فن الستاند آب كوميدي في السياق العربي المعاصر في مكان، وتُظهر افتراقًا كبيرًا عنه في مكان آخر. يمكننا أن نلاحظ أن الجانب التقاطعي يتمثل في العروض الحية والمباشرة داخل النوادي الليلية والكازينوهات، خارج شرط العرض التلفزيوني والإذاعي، وفي المسارح العامة خلال المناسبات الوطنية، إذ حافظ هذا الفن على عناصر سرد النكات والانتقال من موضوع اجتماعي إلى آخر عبر توليفة ساخرة تربط بين الموضوعات الاجتماعية دون أن تجعل منها موضوعًا واحدًا.  

وهذا التكنيك في السخرية والإضحاك هو جوهر فن الستاند آب كوميدي المعاصر، مع فارق واحد يتمثل في أن المونولوجست يشتمل على أساليب أدائية أكثر تنوعًا للوصول إلى الإضحاك منها استخدام الغناء والتمثيل بمفهومه المسرحي، والأزياء في بعض الأحيان. بينما يستمد فن الستاند آب كوميدي عناصر الإضحاك من الموضوع بشكل كبير جدًا، مع شذرات من التقليد الممسرح، والقليل من المؤثرات الصوتية. وبالطبع، وبالشكل الأكبر، قوة وحضور الكوميديان الذي ليس من الضروري أن يكون متمرسًا في العمل المسرحي والتلفزيوني والسينمائي، بينما قام فن المونولوجست على ممثلين متمرسين في الأداء المسرحي والسينمائي، والتلفزيوني، مثل نجيب الريحاني، ولبلبة، وإسماعيل ياسين الذي يعد رائد فن المونولوج في العالم العربي.

وفي سوريا، برع كل من سلامة الأغواني ورفيق سبيعي في هذا الفن. ولكن، كما أسلفنا، لا تحتفظ الذاكرة الشعبية سوى بعروض المونولوج المتلفزة والإذاعية التي كانت منحازة بشكل كبير إلى الشكل الغنائي في النقد الاجتماعي والسياسي الساخر، حتى صار يعرف هذا الفن بأنه شكل من أشكال الفنون الغنائية، وليست الفنون الأدائية كما نعرفها اليوم، أو كما تظهر في عروض الستاند آب كوميدي، لكنه وفق التعريف الأكاديمي وحسب المعجم المسرحي للدكتورة ماري لياس، فهو فن ينتمي إلى أنماط الكوميديا الارتجالية، ويعتمد على الأداء المسرحي، والموضوع الاجتماعي والسياسي، ويشتمل على التقليد والغناء، لكنه يشترط الفردانية في الأداء.

هذه المقاربات بين الفنين تفيد لناحية فهم الوتيرة المتصاعدة لفن الستاند آب كوميدي، على المستوى العربي، واتساع جماهيريته بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وبين منشئي المحتوى الساخر على تلك المنصات. ومن الملاحظ أن صناع هذا النوع من المحتوى، بدأوا بدخول عالم الستاند آب كوميدي ولو على استحياء وبحذر، لكنهم يعملون على خلق إيحاء بأن هذا الفن مستورد بالكامل، وبلا أي جذور أو تجارب كلاسيكية سابقة. 

ومثلما كان فن المونولوجست الحي شكلًا من أشكال الفرجة والتسلية لطبقة الأثرياء والساسة، وقليل من وجوه الطبقة الوسطى البارزة؛ فإن فن الستاند آب كوميدي يمضي بدوره في عروضه بخلق مناخ طبقي من خلال تقديم عروضه لجمهور محدد ومحدود العدد، وصياغة الموضوع الاجتماعي واختراع النكات مناسبة لسياق اجتماعي دون غيره، من خلال إشباع الارتجالات بالمصطلحات الإنجليزي، ليس من باب التظاهر ولكن من الواضح أنها لغة وشيفرات يفهمها ويتفاهم بها طبقة من الناس في معظم البلدان العربية.

إضافة الى التحرر الكامل من الرقابة، وتضمين العروض للشتائم المستخدمة في الشارع، في ذرة انفعالية معتادة، يستخدمها الجميع باعتيادية، لكنها في عروض الستاند آب كوميدي تأخذ شكل كسر التابوهات الاجتماعية التي تتجه الى تنميق الكلام، واختيار العبارات بدقة، خاصة في شرط الملقي والمتلقي، ولا تُستخدم الإيحاءات الجنسية لإثارة الضحك، كما كان في فن المونولوجست، بل تستخدم العبارات كما تقال في الشارع. 

ولابد من القول إن عروض الستاند آب كوميدي التي أخذت بالتزايد باضطراد ملحوظ، في الخمس سنوات المنصرمة، مشكَّلة بشكل كبير وفق التجربة الأميركية بالتحديد، علمًا أن بدايات هذا الفن خلال القرن التاسع عشر، تخبرنا بأنه فن عرف بـ" فن الفواصل"، إذ اشتهر به بعض مقدمي العروض بين الفواصل التي كانت ضرورية، لشغل الزمن المهدور بين فقرات العروض.

لكنه انتقل إلى الكازينوهات الكبيرة والحانات والنوادي الليلية، وكان يُقدَّم أحيانًا كعرض مستقل بين مغنيين، ثم تطور كفن مستقل وصار له نواد خاصة به، قبل أن ينتقل إلى البرامج الترفيهية في التلفزيون. وهو في كل هذا فن تغلب عليه الطبيعة الطبقية، إذ يعتبر حتى في شرطه التلفزيوني فرجة طبقية تقسم الجمهور المتلقي إلى قسمين، قسم داخل فضاء الترفيه، والقسم الآخر من وراء الزجاج.

وثمة الكثير من الأفلام التي تشير إلى هذا الفن باعتباره دلالة طبقية وكوميديا تخص كيمياء طبقة معينة من المجتمع، ويستدل به أيضًا على البؤس الاجتماعي الكامن خارج فضاء الترفيه. ففي فيلم " ملك الكوميديا" الذي لعب بطولته الممثل الكبير روبرت دي نيرو، يقوم هذا الشاب الطموح الحالم باختراق عالم الترفيه الخاص بالطبقة المخملية، ويحاول تأليف نكات تناسب هذه الطبقة. وعندما يعجز، يقوم باختطاف الكوميديان الرئيسي ومقدم البرامج ويأخذه رهينة كي يقدم ولو عرضًا واحدًا فقط. وهو العرض الذي سيصبح سببًا في شهرته، وينقله إلى عوالم صناعة الترفيه.

وربما يأخذنا فيلم "الجوكر" أيضًا بشكل أعمق إلى تحليل مفاهيم الضحك الطبقية، أو دراسة الطبقية، والفروق الاجتماعية من خلال تحديد دقيق وعميق للكوميديا، وفن الإضحاك، وجوهره الطبقي. فالمهرج المنتمي إلى فنون الشارع، لا يمكنه ولوج عالم الكوميديا الخاصة بالطبقة الرأسمالية، وكأن فن الإضحاك بكل مايشتمل عليه من عاطفة، لا يمكن أن يكون عابرًا للمستويات الاجتماعية، وليس بذلك النبل الذي نعتقده وشكَّلنا تصوراتنا عنه.

يُعبّر فن الستاند آب كوميدي في السياق العربي المعاصر عن خصخصة المزاج العام تمهيدًا لزواله

والفيلم يقدم نقدًا مرًّا للمجتمع من خلال فلسلفة الضحك، المهرج الذي لا يحتمل السخرية، والذي ضاق ذرعًآ بالمتخمين والمتحكمين بالعامة، واستخدامهم للكوميديا السوداء للتنفيس وإفراغ غضب الناس، وترسيخ معاناتهم، فجعل الكوميديا السوداء ذات فعل انفجاري وليس تفريغي. 

يمكن القول إن فن الستاند آب كوميدي، في السياق العربي، فن مستلب للتجربة الأميركية بالكامل، ويتجاهل عن دراية أو دون دراية، امتداداته الكلاسيكية. لكنه في هذا يُعد تعبيرًا متناميًا عن خصخصة المزاج العام كمقدمة لزواله، ومؤشرًا على تفكك المجال العام وتحوله إلى مجالات.