18-يناير-2017

بقايا خط الحجاز الحديدي

نسير في الشوارع، ندخل بيوتًا معلقة مثل حذاء خلف عربة القدرِ الماضية بنا في طرق شديدة الانحدار، نلجأ إلى الجبال حينما المدنُ تلفظنا استقاءة. نسكب في أحشائنا، كلّ يوم، ثلاثة لترات من الماء ولترين من الخمر وخمسة لترات من الأرق... وآلاف الأميال.

نمسح عناويننا، نكسر هواتفنا، نتعاطى أكثر الجرعات المسكّنة قوّة لئلا نعاني من ألم الضمير. ننسى كلّ شيء، ونلتهم يأسنا. 

أُحسُّ بثقلٍ في رأسي، تدورُ الكأس حول رأسي، تدور قارورةُ الدواء حول رأسي. سنوات بعيدة وأنا أجمعُ الفتات، لأحصل على ثمن تذكرة العودة إلى مدينتي التي تتقاطع خطوطها مع تجاعيدي العميقة، ويتصل مجرى نهرها مع مجرى دموعي. أمضي إلى المحطة، رجلٌ في زيّ رسميّ، أسأله: 

- من فضلك، هل لك أن تقطع لي تذكِرة سفر إلى مدينتي؟

- مدينتك! ... لكن، لا شاغر.

- رحلة المساء؟ 

- لا شاغر.

- رحلة الغد؟

- الغد أيضًا.

تهرب الملائكة عن يميني فيما يخبرني بأنّه، ربّما لن يوجد شاغر لسبع سنين أُخَر. تشتعلُ عيناي، وبهدوء أُخرِج المسدّسَ الصغير الذي ابتعتُهُ لمولودي الجديد، فتتناثرُ دماؤه في أنحاء المكان، أتوسّل إلى سائق القطار أنْ يُقلّني، فأصعد وإيّاه متأبّطًا حقيبتي الصغيرة، التي وضعتُ فيها المسدّس الصغير، والذي ابتعتُهُ لمولودي الجديد. أدخلُ العربات خلسة عنه.

كم حقائبَ تتصدّرُ المكانَ! أتصادمُ وآلاف العيون المتعبةِ التي دومًا تحمل حقائبَ، وتصافحني من العيون تلك آلافُ الأيدي. أدخلُ دورة مياه، أتقيّأ فيها حيرتي وتعجُّبي من كلّ هذا التيه، ومن كلّ هذه العيون التائهة والحقائب المهاجرة المتعبة.

يتوقف القطارُ، أغادرُ لاهثًا، أُوَلّي ظهري المحطة ثم أهبط إلى جوف المدينة لأستكشفها، لكنّها ليست مدينتي! أبحث في الشوارع، أقرأ أسماءها، يافطات الإعلانات جميعها، لكنّها ليست مدينتي، عبثًا أقبّلُ وجه طفلٍ لأميّز فيه طعم مدينتي. أعودُ إلى المحطة مهشّمًا، محطّمًا، وأنا كتلة لحمٍ مستندةٌ إلى الحذاء الذي يجرجرني صوبَ المحطة. أذهب إلى كوّة التذاكر: 

- معذرة سيّدي، تذكِرةَ سفر إلى مدينتي. 

- مدينتك!! لكن، لا شاغر.

أتوسّلُ إليه، أستحلفه بكل عزيز على قلبه... 

- المعذرة، لا شاغر ربّما لسبع سنين أُخَر.

أشدّ حقيبتي إلى ظهري، وأجلسُ على كرسيّ الانتظار، أنتظرُ سنين عديدة تتقاذفني فيها المحطات، أصعد القطار وفي يدي تذكِرةُ سفر، تمزّقتْ قيئًا وتعبًا.

أدخلُ، هذه المرّة، بتفاؤل الشيخوخة وتذكِرتي الممزّقة في يديّ، أهمُّ بالجلوس في مقعدي، فإذا عجوزٌ محنيُّ الظهر جالسٌ، أتفرّسُ فيه، لكنني لا أحتجُّ وإنّما أُجاورُه في هدوء، أتابعُ الركّاب، حركاتِهم الهرمة ووجوههم التي فقدتْ ملامحها. ترتسمُ على وجهي علاماتُ التعجّب لأنّ هذا المحنيَّ، بجانبي، لا يحمل عكّازًا يُعينُه على شيخوخته (العكّازُ يُشعرني بالضعف، وأنا لا أريد أن أشعر بذلك).

أحفظ عنه حِكَمًا كثيرة، أسمعُ منه حكايات الطفولةِ - طفولتِهِ الشبيهة بطفولتي حَدَّ التطابقِ. 

نصلُ إلى النهاية، أحاول النزول لكنّه يستوقفني:

- أَلن تأخذ شيخوختك معك؟

فأخرج، بعد أن ألبس ملامحه المتعبة وظهره المحنيَّ. أنزل في المحطة، أشاهدُ قاطِع التذاكِر لا يزال مضرّجًا بالدم وهو في زيّه الرسميّ.

أتخطّاه بهدوء، وأترك المحطة خطوة.. خطوة، وراء ظهري المتعب. أفحصُ المدينة بعينيّ المنهكتين، أقرأ أسماء الشوارع حرفًا.. حرفًا، وشارعًا.. شارعًا، أقرأ يافطاتِ الإعلانات، أقبّلُ وجوه الأطفال، ألهو في مقاهي المدينة، وعندما أرى ملامحي التي نسيتُها على إحدى المرايا، أتأكّد بأنّها مدينتي، وأخيرًا أخرج عن الطريق لأرى منزلي الذي تركته.

أدخلُ المنزل وأضع حقيبتي الصغيرة جانبًا، أفترش التراب. وبعدَ سبعة أيّام من حُلولي بالمنزل كانت الشجيرات قد استعادت خُضرتها، وامتدت جذورُها عميقًا؛ وقد اخترقتْ جسدي المتناثر كحبّات من التراب. أيضًا، وعلى صدري، نبت العشبُ والبابونج، ورأيتُ مولودي الجديد يعبث بالزهور، التي نبتت على صدري فيما يلهو بمسدّسه الصغير.



اقرأ/ي أيضًا:

نسيتُ معطفي في دمشق

جثة قوس قزح