17-يناير-2017

ستار نعمة/ العراق

كنت على وشك الوصول إلى تلك الجزيرة اليونانية حين استيقظت فزعًا بعد أن مال بنا القارب وكدنا نسقط جميعًا في البحر. كان ذلك الكابوس يطاردني منذ عدة أسابيع، بالإضافة إلى آلام معدتي التي تبدأ بمجرد استلقائي على السرير، وتنتهي حين أتمكن من النوم بعد صراع طويل مع الأفكار التي تقفز إلى ذهني فجأة: الوصول إلى أوروبا وإقامة أول معرض للوحاتي المعلقة بإهمال على جدران المنزل دون أن يلتفت أحد إليها، أمي التي بلغت قبل أيام قليلة الخامسة والخمسين من العمر بثلاثة أمراض قذرة ومزمنة، طقم أسنانها الذي تُضيعه دائمًا، والفتاة التي تنتظرني كل صباح أمام نافذة غرفتها، على بعد ثلاثة منازل مهجورة من منزلنا.

كانت ساعة هاتفي تُشير إلى التاسعة وثلاثة دقائق صباحًا، ذلك يعني أنني تأخرت عن عملي ثلاث دقائق، بالإضافة إلى سبع عشرة دقيقة هي الوقت الذي أحتاجه للوصول إلى المستشفى. نهضت من السرير بسرعة نحو الحمام، أفرغت مثانتي كما لم أفعل منذ أشهر، غسلت وجهي وداعبت الندوب الثلاثة أسفل عيني اليسرى، ثم ارتديت ثيابي على عجل وخرجت من الغرفة. في الصالون، كانت أمي تبحث عن طقم أسنانها، ابتسمت في وجهي دون أن تفتح فمها الخالي من الأسنان، وأكملت بحثها بينما غادرت أنا المنزل متجهًا نحو المستشفى، سالكًا الطريق الذي يكلفني قرابة العشرين دقيقة، عكس الطريق الأخر الذي يكلفني وقت أقل بكثير للوصول، ولكنه لا يتيح لي رؤية تلك الفتاة.

في المستشفى، كانت الأشلاء البشرية موضوعة على الطاولة الخشبية الكبيرة في منتصف الغرفة بإهمال، مشكلةً جبلًا من الأقدام والأيادي والأصابع والأجزاء الأخرى مجهولة الهوية، وكان علي أن أقوم بفرزها ووضعها في أكياس سوداء كبيرة، ومن ثم دفنها في مقبرة المدينة. أثناء قيامي بذلك، دخلت سعاد إلى الغرفة حاملةً فنجاني قهوة وعلبة سجائر فاخرة وباهظة الثمن. سعاد إحدى الممرضات في المستشفى، يقال إنها مصابة بمرض نفسي نسيت اسمه، يدفعها للصراخ كلما وقفت أمام المرآة، تقول إنها رأت - في المرأة وجه ذئب بدلًا من وجهها، ورغم ذلك، يشهد الجميع في المستشفى أنها أفضل ممرضة هنا. وضَعت فنجاني القهوة على الطاولة، يبدو أنها لم تنتبه للدماء وما تبقى من الأشلاء البشرية، ثم أشعلت سيجارة لها وأخرى لي، وبدأت بالحديث عن الحرب والتمريض وعمرها الذي تجاوز الثلاثين وعمري الذي تجاوز الخامسة والثلاثين دون زواج، مما يعني أننا ملائمان لنكون زوجين، وأكملت حديثها عن الذئاب التي تصادفها في المرايا يوميًا. ابتسمت كما أفعل دائمًا، وشكرتها على القهوة والسجائر، وعدت لإكمال عملي. قبل أن تغادر الغرفة، وقفت تتأمل ما تبقى من الأشلاء، ثم قالت وهي تضع علبة السجائر في جيب سترتها: "لماذا لا تقوم برسم هذه الأشلاء بشكل مختلف عما هي عليه الآن؟ أقصد أن ترسمها في البداية في ذهنك، تعيد خلقها، ثم ترسمها بعد ذلك بشكل نهائي"، وغادرت الغرفة تاركةً وراءها تلك الفكرة المجنونة.

عدت لإكمال عملي وأنا أقلّب فكرة سعاد في ذهني، متخيلًا شكل الأشلاء بعد أن أقوم برسمها. أخذت كرسي وجلست أمام الطاولة أتأمل تلك الأشلاء، كانت أمامي ساق مقطوعة بشكل غريب، رسمتها في ذهني نافورة ماء وسط المدينة. إلى جانبها كان هناك رأس ذائب الملامح، مشوه وممزق بشكل مفزع، حولته أيضًا إلى زهرة ضخمة بأوراق صفراء اللون في حقل واسع ومخيف. فعلت الأمر ذاته مع جميع الأشلاء على الطاولة، وحين انتهيت، أخرجت هاتفي النقال من جيب بنطالي، والتقطت لها صور لأرسمها في المنزل لاحقًا، ثم وضعتها في تلك الأكياس السوداء الكبيرة، ومرّ ذلك اليوم دون أشلاء إضافية تصل إلى المستشفى. 

في المساء، كانت أمي ممسكة بألبوم صور قديم تقلّب صفحاته ببطء شديد. ابتسمتْ في وجهي كما تفعل دائمًا، وكانت قد عثرت على طقم أسنانها، ثم أخبرتني أنها وضعت الطعام في المطبخ, إلا أنني توجهت نحو غرفتي فورًا. في الغرفة هناك أربعة لوحات فقط لفزاعات بأشكال غريبة، أتحدث معها يوميًا لغرض التسلية فقط. فتحت هاتفي النقال على صور تلك الأشلاء، وبدأت برسمها، وفي تلك الليلة، قمت برسم ثلاثة لوحات، ثم غطست في نوم عميق بعد توقف آلام معدتي.

في اليوم التالي، خرجت من المنزل باكرًا، وسلكت الطريق الذي يتيح لي رؤية تلك الفتاة. كانت تقف أمام نافذة غرفتها، بابتسامتها التي دفعتني للاقتراب بحذر من النافذة، ولكن ما أفسد علي تلك اللحظة كان ظهور والدها المفاجئ في باب المنزل، وسعاله الحاد الذي جعل الفتاة تغلق نافذة الغرفة، بينما أكملت أنا الطريق نحو المستشفى.

هناك – في المستشفى – كانت الطاولة خالية من الأشلاء البشرية، وكانت سعاد تنتظرني بفنجاني القهوة والسجائر الفاخرة. أشعلت سيجارة وحدثتها عما جرى في الأمس، ابتسمت بخبث ثم قالت: "ألم أقل لك؟ إنك تمتلك مخيلة جميلة ولكنك لا تلتفت إلى جانبها القذر، عليك أن تقوم بذلك دائمًا، وأن تكف عن رسم النساء والبيوت والحقول المخيفة والفزاعات"، لم تكن تعرف أن هناك فزاعة رسمتها حين حاولت رسم وجهها.

في الساعة الحادية عشر، كنّا لا نزال نتبادل أحاديث مختلفة حين دوى صوت انفجار هائل في المدينة، مخلفًا سحب دخان تتصاعد في سمائها، وبعد ربع ساعة وصلت إلى المستشفى ثلاثة جثث وعدد من الأشلاء البشرية.

أطفأت سعاد سيجارتها وغادرت الغرفة بعد أن طبعت قبلة جريئة على خدي متجهةً نحو قسم الطوارئ حيث تعمل، بينما انصرفت أنا لفرز تلك الأشلاء التي لم تكن يومها صالحة للرسم، وحين انتهيت – وبعد أن وضعتها في الأكياس- قمت بتغطية الجثث الثلاث بأغطية رمادية اللون. أثناء ذلك، قفزت إلى ذهني فكرة رسم الجثث، المشوهة منها فقط، وكانت أمامي جثة محترقة بشكل كامل، رسمتها في ذهني دون إضافة أي تعديل عليها، باستثناء تلوينها بألوان قوس قزح بدلًا من اللون الأسود، ثم التقطت لها صورة بهاتفي، وقمت بتغطيتها.

في المساء، لم تكن أمي في المنزل، لا بد أنها ذهبت لزيارة إحدى جاراتها. هكذا حدث نفسي وأنا أدخل الصالون لأبدأ برسم تلك الجثة، مستغل غياب والدتي وبحثها الدائم عن طقم أسنانها، وحين انتهيت من رسم اللوحة، علقتها إلى جوار اللوحات السابقة: حقول واسعة ومخيفة، فزاعات بأشكال مختلفة، وجوه نساء ورجال مع القليل من العبث في ملامحهم. ثم رميت جسدي المتعب من فرز الأشلاء البشرية ورسمها على الأريكة بقوة، وقررت أن أنام لبعض الوقت، و قبل أن أغمض عيني، رأيت تلك الجثة تنزل من اللوحة، ثم بدأت بالبحث عن شيء ما. كانت تبحث في الجوارير، وفي الخزانة جوار النافذة، والمكتبة الصغيرة، كما كانت تقلّب وسائد الأرائك وترميها على الأرضية، وحين التفتت نحوي، ابتسمت، وكان فمها خالٍ من الأسنان.



اقرأ/ي أيضًا:

زوّار المحطات

نسيتُ معطفي في دمشق