06-أغسطس-2023
كاريكاتير لـ مورو/ كوبا

كاريكاتير لـ مورو/ كوبا

بعد عقود من قمع الحريات في العديد من الدول جاءت الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي مطلع الألفية لتمنح الناس متنفسًا للتعبير عن آرائهم، الناس الذين بات أكثرهم يعانون من شكل من أشكال الرهاب الاجتماعي بعد عقود من الكبت والترهيب، فجاءت هذه الوسائل لتوفر فسحة للتفاعل في الفضاء العام، الفضاء الذي أغلق بشكل شبه تام في العالم الحقيقي.

هذه الفسحة جاءت بإيجابياتها وسلبياتها، فمن جانب نوعت مصادر المعلومات، ورفعت من سقوف حرية التعبير، ووفرت المنابر للأصوات غير المسموعة، وشكلت أداة سهلة للتنظيم والتعبئة المجتمعية والمدافعة وحشد التأييد والانخراط في الفضاء العام، هروبًا من منظومات سلطوية نجحت في السابق في ترويض الحياة الحزبية وغالبية المجتمع المدني، حتى بات معظمهم دمىً خشبية في خدمة السلطة، أو على الأقل متماهين مع سياساتها خوفًا، أو طمعًا في بعض الفتات الذي يمكن أن يلقى هنا أو هناك بين الفينة والأخرى.

كأن قمع السلطات لم يكن كافيًا، فأطلت علينا شركات التقنية العملاقة لتحاول تدجين هذا الفضاء من جانبها، لربما لأسباب تجارية بحتة، ولكن النتيجة في النهاية واحدة

ومن جانب آخر، وفي أثناء النمو العضوي جزئيًا لهذه الوسائل، كان من الطبيعي رؤية أفراد ومجموعات يطورون سلوكيات سلبية مثل الوقاحة أو العداء أو الاعتلال الاجتماعي مدفوعين بعوامل متعددة، مثل الكبت والقهر في العالم الحقيقي، كما عززت فكرة القدرة على إخفاء الهوية عدوانية الكثيرين مدفوعة بالشعور الزائف بالقدرة على الهروب من المسؤولية عما يقولون في الفضاء الافتراضي، بالإضافة لعوامل أخرى مثل تأثير غرف الصدى، التي عززت الافكار المتطرفة والعنصرية من خلال اجترارها مرارًا وتكرارًا ضمن المجموعات المنغلقة على نفسها.

التلاطم بين أمواج الإيجابية والسلبية خلق شعورًا بفوضى وسائل التواصل الاجتماعي أحيانًا، وهذا قد يكون جزءً مفهوم ومتوقع من دورة حياة وتطور مثل هذه الوسائل، وكان من المفهوم المطالبة بتنظيم هذا الفضاء وضمان أمن وحقوق وحرية مرتاديه والمتأثرين به، وسارت الأمور بشكل طبيعي إلى أن تنطح حارسي الفضيلة في الفضاء الرقمي لتنظيمه، ممثلين بالسلطات الحكومية وعمالقة التكنولوجيا المسيطرين فنيًا على هذا الفضاء.

السلطات الشمولية المتخوفة من قدرة هذا الفضاء الجديد على تنظيم صفوف المعارضين والمنتقدين، وتضخيم أصواتهم في مواجهة فسادها وسوء إدارتها، أخذت على عاتقها مسؤولية تدجين هذا القادم الجديد نسبيًا، من خلال تشديد الرقابة على الإنترنت لدرجة تصل لحد قطعها عند الاضطرابات السياسية، ولا تخجل من نشر المعلومات المضللة ومنع الوصول للمعلومات وغسل الادمغة بشكل منهجي في أثناء إدعائها محاربة الإشاعات والأخبار الكاذبة، كما استسهلت تخويف رواد المواقع الإلكترونية وإرهابهم من خلال ما بات يعرف بالذباب أو اللجان الإلكترونية، التي تطلقهم السلطات كالوحوش المسعورة كلما شاءت إسكات صوت محدد.

ويبدو أن كل هذا لم يعد كافيًا فشرعت السلطات في تفصيل قوانين فضفاضة ومبهمة لتحكم سيطرتها على الفضاء العام وتدق المسمار الأخير في نعش ما تبقى من حريات، قوانين تتيح للسلطات تكييف القوانين كما شاءت لتقمع الأصوات المعارضة من خلال أشد العقوبات، وفي ذات الوقت تشيح النظر عن مخالفات ذبابها والمحسوبين عليها متى شاءت، فالفكرة ليست في التشريعات فقط بل في كيفية إنفاذها من قبل السلطات، تشريعات يتم فيها تجاهل الرأي العام، وتطبخ على عجل لدرجة أن بعض وصفات الطعام كشواء بعض أنواع اللحم المدخن تستغرق فعليًا وليس مجازًا وقتًا أطول مما استغرقه إقرار بعض هذه القوانين! في كلمة حقٍ أخرى لم يقصد بها سوى الباطل.

وكأن قمع السلطات لم يكن كافيًا، فأطلت علينا شركات التقنية العملاقة لتحاول تدجين هذا الفضاء من جانبها، لربما لأسباب تجارية بحتة، ولكن النتيجة في النهاية واحدة، محاولة تشكيل هذا الفضاء والسيطرة عليه بما يخدم مصالحها، مستغلة سيطرتها الكاملة على هذا الكم الرهيب من البيانات ومساحات التواصل، وقدرتها على السيطرة على المحتوى وديناميكيات المنصات من خلال الخوارزميات التي تفصل على هوى سياسات الشركات، وقدرتها على توجيه سلوك الأفراد وجمع البيانات الخاصة وتوجيه الإعلانات والمحتوى، في واقع قد يقربنا من أفلام الخيال العلمي الذي تسيطر فيه شركة تقنية عملاقة وشريرة على البشرية.

مكافحة محاولات السيطرة على الفضاء الإلكتروني من قبل الحكومات السلطوية أو شركات التقنية الكبرى لم يكن أمرًا بالغ الأهمية كحاله اليوم لحماية الديمقراطية، والحفاظ على الحريات الفردية، وحماية خصوصية معلومات الافراد، وتعزيز الشفافية والحوكمة والمساءلة، وتسهيل الوصول للمعلومات والتبادل المفتوح للأفكار.

وعلى الرغم من وضع قانون قمعي هنا أو إقرار سياسة إقصائية هناك، ما زال من المهم مواصلة كفاح الأفراد والجماعات من أجل تعزيز بيئة رقمية مفتوحة وشاملة تدعم المبادئ الديمقراطية، وتمكن الأفراد من المشاركة في تشكيل مستقبل الإنترنت ومستقبلهم.

قد تكسب السلطوية ورأسمالية الشركات الكبرى معركة هنا، أو مواجهة هناك، لكن الصراع على الحرية ما زال مستمرًا.