23-يوليو-2023
الياس خوري 2010

يرافقني إلياس خوري في حياتي الصغيرة مثل صديق يعرفني أكثر ممّا أعرف نفسي، فألجأ إليه دومًا ليعينني على فهم العالم، والطبيعة البشرية، والتحولات الاجتماعية الكبرى، من خلال تجربة استثنائية مجالها الكلمات.

صوته الخارج من سطور الكتابة مثل صوت البحر، يحدّثني طويلًا عن الحياة المتخمة بالشِّعر، عن الأشياء التي تغيم فلا نعرف من ضبابية المشهد أيُّنا الحقيقي: نحن أم خيالاتنا! وعن الهوية المنقسمة على نفسها والذوات المتشظية (بشكل خاص في روايتي "سينالكول" و"اسمي آدم")، وعن الكلمات التي تغدو أقسى وسائل التعذيب (كما تخبرنا بذلك روايته "يالو").

من عجائب الكتابة، كما تقول تجربة الروائي إلياس خوري، أنها تُفهمنا ما لا نفهمه من الماء والريح، مع أن الأدب، بل اللغة، ولدا بعدهما بمليارات السنين

هي حكمة الكاتب التي تضعه إلى جوار الجبل والنهر والغابة، وترفعه إلى مستوى الريح والنار، لأنها إذ تأتي من أعمق أعماق الوجود فكي تذكرنا بأننا من هذه الأرض ولها، وأنّ تفاهمنا الروحي مع العالم هو الذي يُنتج العاطفة الصافية، التي تجعل كلًّا منا قابلًا لتسمية "إنسان".

من عجائب الكتابة، كما تقول تجربة خوري، أنها تُفهمنا ما لا نفهمه من الماء والريح، مع أن الأدب، بل اللغة، ولدا بعدهما بمليارات السنين.

في الجزء الأول من ثلاثية "أولاد الغيتو"، كانت النار تكتب الحكاية، وكان السرد ناريًّا، ولذلك جاءت جميع النسخ المطبوعة التي صنعت النسخة الورقية محمّلة برائحة حريق. ولا أدري هل سبب ذلك لأنّ المطبعة التي صنعت النسخة الورقية فيها رائحة نار، أم لأنّ الدفتر الذي استند إليه المؤلف وصله بعد حريق شبَّ في بيت الشخصية الرئيسة، أم لأنّ قارئ الأعمال الكبرى عرضة للتهيؤات!

لا أدري، ولا أريد أن أدري، ففي مدينة اللد التي حُرقت جثث أهلها بعد احتلالها عام 1948، وفي مصير ابنها آدم دنون الذي احترق في نيويورك، منفيًا ووحيدًا، نيرانٌ كثيرةٌ لم يكن بوسع السرد سوى تخزينها في ثناياه.

أمرٌ آخر؛ في "كأنها نائمة"، تحوّل الروائي الرجل إلى امرأة، وتحوّلت المرأة إلى أحلام، وتحوّلت الأحلام إلى كلمات، وتحولت الكلمات إلى براهين على أنّ البشر أحلام وحسب، وليست أحلامًا ترى ما مضى، بل بوسعها أن ترى المصائر المخبئة في مقبل الأيام. نفتح أعيننا فنرى ما أمامنا، ونغمضها فنرى ما سيأتي.

برع إلياس خوري في أن يكون شهرزاد معاصرة، من حيث القدرة الفائقة على ابتكار القصص، وإضافة أناس جدد إلى الحياة، وإلى السجلات المدنية في بلداننا. كما اجتهد طوال الوقت في كتابة نقده القاسي للبنى السياسية الشمولية القائمة، وفي محاولة فهم جوهر الحروب الأهلية، وفي كتابة نثر مشتق من منظور فاهم للتاريخ الاجتماعي، وفي المزاوجة الفريدة بين جماليات الأدب العربي القديم وزمننا الراهن. وذلك كله من منطق سمّاه "المعارضة الثقافية"، وهي كما عرّفها في مقال قديم بأنها كتابة ترفض الأطر المفروضة قسرًا على شعوبنا، وتدافع عن الكرامة وحق الوجود والبقاء، وتعمل بدأب على حفظ الذاكرة الجماعية في لغة ناصعة.

واكب خوري حياتنا بمقالاته التي جعلها شكلًا من أشكال المداخلة في الحوار العام. وكم قرأنا له ما يُبكي ويُحرّض ويُعلم، ولعل هذه فرصة مثالية من أجل الدعوة إلى جمع تلك المقالات في كتب.

برع إلياس خوري في أن يكون شهرزاد معاصرة، من حيث القدرة الفائقة على ابتكار القصص، وإضافة أناس جدد إلى الحياة، وإلى السجلات المدنية في بلداننا

هناك علاقة محورية قامت عليها رواية "باب الشمس"، حين راح الممرض خليل أيوب يحاول مساعدة البطل يونس الأسدي على استعادة وعيه من الغيبوبة التي التهمته. خليل ابتكر طريقته الخاصة للعناية بصديقه ومعلمه، وهي تقوم على سرد القصص التي جمعها من فم يونس نفسه، أو من أفواه آخرين عنه، ووقتها حدثت المعجزة، بينما يعالج الراوي بطل القصص يرثه، يمتلك ماضيه، يغدو هو. فخليل أصبح يونس الحي والحاضر، وبهذا حصل على علاقة مع نهيلة، زوجة يونس وحبيبته، في مشهد خيالي مذهل.

حكت شهرزاد الأصلية لتحافظ على حياتها من الموت بسيف من يصغي لها، أما شهرزاد التي مثّلتها شخصية خليل أيوب فحكت لتحافظ على حياة الآخر، على حياة من يسمع، وفي الوقت نفسه تتماهى في حكايته إلى حد أنها تحب حبيبته.

هذا هو سرّ الأدب. وهذا هو السرّ الذي أدركه الياس خوري جيدًا وهو يعيش بيننا كواحد من أكبر الرواة المعاصرين في اللغة العربية: لا ندخل إلى حياة الآخر إلا نكونه!

على سرير مرضه يجسّد خوري حكايا كثيرة؛ سيرًا كتبها وعاشها، وأخرى يُمثّلها. وعلى طريقته هو نجمع نحن قصصه، نفكر فيها ونتقمصها، ونتساءل كيف يمكن لحياة واحدة ابتكار هذه الحيوات كلّها؟