04-نوفمبر-2021

لوحة لـ يوسف عبدلكي/ سوريا

تخلق النصوص مسالك سرية تضيء على عتمتها، وتقود إلى فهمها وإزالة غموضها. ودائمًا ما يعثر مقتفو الأثر الأدبي على ذلك في هوامش يلوذ بها الكاتب، من يوميات وحوارات وشهادات ورسائل. ففي هذه الأنواع تسطع مرايا ترينا أفكار الكاتب وطبيعة اهتماماته. وهو أمر يكتشفه القرّاء على الـدوام في يوميات تشيخوف وكافكا وبيسوا، ورسائل ريلكه، وذكريات همنغواي، وحوارات محمود درويش والماغوط... إلخ، حيث يمكننا أن نرى ولادة الفكرة ونموها، وكيف تكتسب شخصيتها الفريدة في كتاب.

تخلق النصوص مسالك سرية تضيء على عتمتها، وتقود إلى فهمها وإزالة غموضها

في "السيرتان"، يقدّم لنا سليم بركات سيرتيْ طفولته وشبابه في مدينة القامشلي، في الشمال السوري، حيث يحكي لنا عن عالم سحريّ وجنونيّ في قهره وعنفه، لكنه في الوقت نفسه يقدم صندوقًا أسود لكل أعماله السابقة واللاحقة التي انشغل فيها بالعالم الكردي شعرًا ورواية. وفعلًا يمنحنا هذان العملان الاستثنائيان مفاتيح حاسمة لفهم الكثير من كتابته الصعبة. وإلى جانب "السيرتان" لدى سليم فصل طويل منشور في كتاب "التعجيل في قروض النثر"، تحت عنوان "مذ سلّمتُ مقاليد يقيني إلى الكلمات أخذتُها معي إلى يقينها"، وهو أقرب إلى شهادة في التجربة الحياتية والكتابية، وفيه يضيء على الأفكار والهواجس التي قادته إلى كتابة العديد من كتبه، سواء في الشعر أو في الرواية، وما الذي كان يتوخاه منها. ولعله لم يكن يقصد الشرح لنا بمقدار ما كان يشرح ذلك لنفسه أولًا.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا درس كبار الكاتبات والكتاب العرب؟

هناك حالة مشابهة تقدمها لنا مقالات إلياس خوري، فمن يتابعه يعرف أنه كاتب مواظب على كتابة مقال أسبوعي منذ عقود، إضافة إلى كتابته دراسات أدبية وفكرية بين حين وآخر، وصادف أنه قبل سنوات كتب دراسة مشوّقة عن الشاعر الفلسطيني راشد حسين بوصفه حاضرًا غائبًا (صفة أطلقها القانون الإسرائيلي على الفلسطينيين الباقين من أجل شرعنة الاستيلاء على أرضهم)، ودراسة أخرى عن الكاتب الفلسطيني فوزي الأسمر الذي ألف كتابًا هامًّا بعنوان "أن تكون عربيًّا في إسرائيل"،  كما كتب نصًّا طويلًا عن صمت الضحية، وحين أصدر روايته "أولاد الغيتو - اسمي آدم" وجدنا أن بطله آدم دنون في جزء كبير منه هو راشد حسين، ولأن الرواية تدور بشكل أساسي خلال أحداث النكبة في مدينة اللد كان لكتابات فوزي الأسمر حضور فكري ووجداني، ويعرف قارئ الرواية أن فكرة صمت الضحية حاضرة في النص من ألفه إلى يائه.

لم يكن ما فعلته كتابات إلياس خوري غير الروائية تلك أنها منحتنا تمكنًا من النص وحسب، إنما قامت بجعلنا نرى ترحال الأفكار وتحولها من النظري والتوثيقي إلى الحكائي والسردي.

ترينا تلك الهوامش أفكارهم ومشاعرهم في عفويتها وهي تتحول إلى أدب، وتدلنا على ينبوع الإبداع عن كل واحد من كتّابنا المحبوبين

ولا بد من تذكر أنّ "كتاب اللاطمأنينة"، يوميات فرناندو بيسوا التي باتت من كلاسيكيات أدب القرن العشرين، لا يخرج عن كونه أحد أهم الأمثلة على كواليس الكاتب، لكنه بصورة أخرى بات متنًا أساسيًّا في سياق كتابات صاحبه، وإذا ما كنا نبحث عن أفكار القصائد والروايات، في اليوميات والرسائل فإننا هنا نبحث عن أطياف بيسوا كما عرفناه في هذا الكتاب في الكتب الأخرى.

اقرأ/ي أيضًا: قراءة الأدب: الإحساس بجمال اللغة كقيمة معرفية

تمكننا هذه الكواليس من عوالم أصحابها، حيث نباغتهم فيها مجردين من عدتهم الأدبية، وترينا أفكارهم ومشاعرهم في عفويتها وهي تتحول إلى أدب، إلا أن اهم ما تفعله هو أنها تدلنا على ينبوع الإبداع عند كل واحد من كتّابنا المحبوبين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

نيجيريا بلد ترسمه الروايات

هل الشعر فن شخصي؟