14-سبتمبر-2016

مخيم عين الحلوة

كان لا بدَّ أن تمضي أكثر من ست سنوات على وفاة جدي قبل أن أتمكن من الكتابة عنه، والأهم أن تتقاطع ذكراه السابعة مع قراءتي لرواية الياس خوري الأخيرة "اسمي آدم- أولاد الغيتو"، لأن جدي ببساطة أحد "أولاد الغيتو"، ولأن حيرةَ آدم دنّون حيال صمت منال هي ذاتها حيرتي التي بنيت حول صمت جدي.

كان جدِّي الذي وعَيت إنسانًا قدَّ من صمت. حكاية لجوئه تشبه حكايات الكثيرين حيث خرج مع عائلته من صفورية في الجليل إلى بلدة القرعون في البقاع اللبناني، حيث "ماتت الناس من البرد" فانتقلوا إلى مخيم عين الحلوة. في ذاك الوقت لم يتجاوز عمره السادسة أو السابعة، لا أحد يعلم على وجه الدقة، لكن الأكيد أنه عانى مرارة اللجوء بجوعه وعطشه وذله وأمضى وقته عاملًا ما بين ورش البناء وبساتين الليمون إلى أن أتت الثورة -كما تقول جدتي- فالتحق بصفوف "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" مقاتلًا على "الرباعية" حتى اقتياده أسيرًا إلى معتقل أنصار. عند خروجه من المعتقل كان على موعدٍ مع حفيده الأول وكان هذا لقائي الأول بجدي.

بعد ذلك سوف تغادر الثورة لبنان ويغادر جدي إلى صمته، أو لنقل إلى لغة الصمت. لا أتذكر جدي محدثًا فهو إما يدخن أو يسعل، وإما الاثنين معًا، وإما يتكلم بعينيه. دائمًا ما استقبل الطفل الذي كنته عند زياراتنا له بعبارة "أهلًا بالبطل"، كانت العبارة تسعدني رغم أنني الآن لا أعرف أي بطولة قد يتحلى بها أي طفل في العالم. ربما في عرف النكبة فإن أي ناجٍ من ذل اللجوء ولو بالصدفة يستحيل بطلًا. أما باقي الكلام الذي يدور بين الأجداد والأحفاد فكانت تقوله عيناه، وبالأخص عندما كان يقوم بتحضير وجبة بيض الغنم التي خصني بها دائمًا دون بقية العائلة، ورغم أسئلتي الكثيرة حينها فلم يكن يجيب إلا بنظرات أب ملأها الدفء والاهتمام.

مع بدء الانتفاضة الثانية كان الحماس يشتعل في أزقة المخيم وصدور الناس الذين تابعوا تفاصيل الانتفاضة كأنها حرب التحرير والعودة، إلا جدي اكتفى بمشاهدة أفلامه العربية المفضلة ولدى سؤالي عن رأيه في ما يجري يجيبني على عجل "ما في شي جديد.. خالصة"، بينما عيناه متسمرتان على الشاشة الصغيرة، حينها لم أعر بالًا لردة فعله واعتبرت الأمر يأس رجل طحنته الدنيا ولم يعد لديه ما يقول. لكني، الآن أتذكر، عيناه لم يشوبهما اليأس على العكس كان يشاهد كيف تكون الحياة بلا لجوء وتركيزه عكس اهتمامه في تعويض العمر الضائع في النكبات على الآقل من خلال مشاهدة الحياة في الأفلام. والأدهى أنه كان محقًا لأنه بعد خمس سنوات سنكتشف جميعًا أنه فعلًا "لا شيء جديد وأنها خلصت".

على باب البيت بكى جدي مودعًا إياي ليلة سفري الأول إلى فرنسا، كانت المرة الأولى والأخيرة التي أرى فيها دموع جدي، يا الله ما هذا الرجل -قلت في نفسي- رغم صلابة اليدين وخشونة الذقن إلا أنه يحمل في صدره قلب طفل صغير. الآن أدرك سبب بكائه فأنا وإن نجوت من لعنة اللجوء في صغري إلا أني لم أنج من مصير المنافي لاحقًا. كان بكاء جدي خروجًا عن لغة الصمت التي تبنى، كأنها استجداء للزمن بأن يعفو عنا ويعفينا من اقتلاعنا الدائم وإقامتنا المتواصلة في المنافي، وربما كان رثاءً لقدرٍ أراده لي، لم أصبه وهو لم يخبرني به.

في التاسع عشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2009، كان جدي يجلس على سطح قاعة ناجي العلي في المخيم، أراد أن يعدل في جلسته وما إن أزاح الكرسي حتى انكسر وهوى على رأسه في الباحة، وفي غرفة العمليات في مستشفى غسان حمود فارق الحياة. الشباب الذين هبوا إلى نجدته لدى سماعهم صوت ارتطامه بالأرض لم يسمعوه يصرخ، حتى الآآآخ لم يسمعها أحد، وهكذا مضى جدي إلى حتفه ملتحفًا صمته.

ما معنى الكتابة عن شأن عائلي يعنيني وحدي؟ ولماذا الآن؟ في البداية، أكتب لأقول إنني أحببته في ما مضى وأحبه اليوم أكثر، وأكتب لأعتذر عن ما ظننته يومًا يأسًا في حين أنه كلام لا يقال بالكلمات. لقد أنجز الفلسطينيون قاموسهم اللغوي الصامت في الداخل والشتات والمنافي البعيدة وهم بذلك خرجوا من قالب صمت "التروما" السيكولوجي إلى فضاء أعم وأشمل وليصبح صمتهم دليلًا على طرش العالم وليس علامة بكمهم. 

هذه هي الإشارات التي أرسلها الياس خوري في روايته، وهذا ما نعرفه دون أن ندركه أحيانًا. في الخلاصة لا بد من شيء جديد لكي لا تخلص الحكاية بكوننا يهود العالم.

اقرأ/ي أيضًا:

أفضّل الموت في زاوية عمياء

تلك السيارة الزرقاء