16-يونيو-2019

جنازة عبد الباسط الساروت (Getty)

أثار رحيل عبد الباسط الساروت الكثير من الحزن والتأمل والذهول والنقاشات ونقد الذات وتبكيت الضمير وإعادة تعريف الحب والثورة والبلد والناس... كما ينبغي لثائر عظيم أن يثير. قشّر الساروت كافة الطبقات التي غلفت الذات السورية منذ أن فقد السوريون الأمل بإمكانية تحقيق عالم أرادوا أن يكون جديرًا بهم وبتضحياتهم، تلك الطبقات التي أخفت عميقًا نزوع الحياة الصاخب الذي أراده السوري منذ أن قام بثورته المغدورة واليتيمة، ثم حلّ ما حلّ بثورته وأمله بالحياة. كأنما قال الساروت للسوريين: أظهروا أنفسكم، واكشفوا عن تطلعكم المتجذر للحرية والكرامة! كأنما افتدى الساروت السوريين بموته التراجيدي العظيم، وكأنما السوريون تهيؤوا للاستجابة.

كأنما افتدى الساروت السوريين بموته التراجيدي العظيم، وكأنما السوريون تهيؤوا للاستجابة

ما فعله الساروت بالسوريين عندما مات، هو ذاته ما فعله بهم عندما ثار، وبين الحدثين العظيمين مسيرة قصيرة لأحداث كبيرة وواسعة وتراجيدية هي ذاتها سيرة شعب بأكمله منذ أول خطوة باتجاه الحرية حتى آخر خطوة باتجاه الجلجلة.

اقرأ/ي أيضًا: كيف نحكم على عبد الباسط الساروت؟

ما فعله الساروت بالسوريين وبسوريا هو ذاته ما فعله لأجل السوريين وسوريا. وهذا بالضبط ما جعل منه رمزًا ثوريًا ووطنيًا كبيرًا، وهو -حقيقة- ما يؤهله لأن يكون كذلك.

ثمة من اعترض على فكرة أن نجعل -نحن الساروتيين- من الباسط رمزًا، أو أيقونة. الحديث هنا يجري عن بعض المعترضين من سوريي الثورة وليس من أعدائها وخصومها. ينطلق هؤلاء/ بعضهم من فكرة عدم إحلال صفات تقديسية على أشخاص بشريين، وعدم تقديس أحد انطلاقًا من فكرة ألا مقدس في هذه الحياة. وكما أرى أن هؤلاء يخلطون بين أمرين: الأيقونة والرمز.

الأيقونة تحيل إلى مرجعية دينية، وثنية أولًا قبل الأديان بالمعنى التوحيدي للكلمة، ثم مسيحية انطلاقًا من جعل شخصيات مسيحية ثم أحداث وردت في الأناجيل أيقونات. وقد تكرست فكرة الأيقونة عبر التاريخ بوصفها دينية مسيحية. وحتى الآن تحيل المفردة إلى أيقونات مسيحية. الأيقونة إن كانت لشخص فهي تنطوي على صفة أو صفات جوهرانية ثابتة في الأزمان، تنفي عن صاحبها التغير والتطور فيما لو عاش في ظروف أخرى. الأمر الذي يحيل إلى نوع من التنزيه أيضًا بالإضافة إلى التقديس. التنزيه بما يعني أن الشخص/ الأيقونة لا ولم يرتكب خطأ أو أخطاء كتلك التي يرتكبها الناس الآخرين. كما أن التقديس يحيل إلى عدم إمكانية انتقاد الأيقونة وأنسنتها. وهذان البعدان: التنزيه والتقديس، كما أعتقد، هما اللذان يجعلان بعض الناس يخشون من "أيقنة" الساروت، أي جعله أيقونة.

أما الرمز فهو أمر مختلف. الرمز بشري لا منزّه ولا مقدّس، صاحب تاريخ كغيره من الناس فيه الخطأ وفيه الصواب إلا أنه يختلف عنهم بعمل عظيم قام به حتى النهاية لأجل شعبه/ بلده/ أمته. الرمز هو نوع من الرأسمال الرمزي الذي تحتفظ به الشعوب ويمنحها الشعور بالاعتزاز ويكون قدوة لها في نضالها لأجل قضاياها، تستند إليه في مواجهة أزماتها وانتكاساتها وهزائمها... كما في انتصاراتها أيضًا. الرمز حامل لقيم الشعب، ووعاء لها أيضًا، وهو أمر أرادته الشعوب على مر التاريخ، وإن وجود هؤلاء الرموز لدى جميع الشعوب وعبر مراحل التاريخ كافة يدل على حاجة الشعوب إلى الرموز.

الساروت رمز وليس أيقونة بالمعنى المشار إليه، بشري، لا مقدس، ولا منزّه، هو صانع قيم ومدافع عنها وشهيد لأجلها، هي قيم الحرية والتحرر وهي ذاتها قيم السوريين في ثورتهم، وهي ذاتها القيم التي وجدوها في الساروت ووجدوا أنه يعبر عنها ويحملها ويحميها أيضًا. في دراسة الرموز، شعبيًا، يتم النظر إلى الخط العام للرمز، إلى التوجه العام لشخصيته ولنضاله وأهدافه. وقد وجد السوريون/ سوريو الثورة والحرية كل هذا في تلك الشخصية البسيطة والعميقة، العفوية والسائرة بكل حزم وتصميم ووضوح نحو أهدافها، الممتلئة بروح الناس والفياضة بالحب: حين أصيب بعد "معركة الطحين" التي هدف من خلالها إلى فك الحصار عن حمص، ومن على الفراش الذي كاد أن يكون فراش الموت قال من عمق جراحه: اقتلوني وافتحوا ممرات للناس، اقتلوني وافتحوا ممرات للناس... على فراش الموت عادة يتذّكر الناس أمورهم الشخصية، أهلهم، أسرتهم، أبناءهم... لكنه تذكر الناس المحاصرين فقط، وطلب فتح ممرات لفك الحصار عنهم حتى لو أدى ذلك إلى موته. الناس ترى نفسها فيه. وهذا هو الرمز.

الرمز لا يُصنع تصنيعًا، لا يُبنى من أوهام، وأكذوبات، وادعاءات، وإيديولوجيات.. وغير ذلك مما يلجأ إليه البعض لصناعة رموز خاصة وفئوية.. بل الرمز يمتلك C.V  حقيقي، شعبي، يتوغل في ضمير الناس ويصير هو ضمير الناس، وتتفاعل معه الناس بدون ضخ تحريضي من أي كان، التفاعل مع الرمز يكون عفويًا، تلقائيًا، صادقًا، وواسعًا... وهذا ما حدث مع الساروت: شيعه وبكاه ورثاه الملايين قبل أن يفكر أحد ما أنه رمز أو أيقونة.

لماذا الساروت وليس غيره؟

أنتجت الثورة السورية العديد من الرموز الذين دخلوا وجدان الناس: غياث مطر، فدوى سليمان، مشعل تمو، أبو الفرات، حجي مارع، وسواهم الكثير... جميعهم رموز سوريون وجميعهم يستحقون أن يكونوا كذلك، ويستحق الشعب السوري أن يكون هؤلاء العظماء رموزًا له ورموزه. إلا أن هؤلاء مشهود لهم بموقف محدد، أو مواقف محددة، عالية الإنسانية وعالية المستوى القيمي: نضاليًا وتحرريًا، يمكن أن يتم تعريفهم بهذا أو بهذه المواقف. أما الساروت فيُعرّف بحركة شعب، بمسيرة ثورة، بتراجيديا لم نعرف مثيلًا لها سوى في ما قدمه الإغريق والشعوب القديمة من تراجيديات.

ثمة عوامل عديدة تتضافر على نحو ما، غامض في الكثير من الأحيان، لتصنع شخصًا مثل الساروت

شاب بعمر الـ 19 عامًا تخلى عن كونه حارس مرمى ذا مستقبل مضمون في عالم كرة القدم، ثم ثائرًا، بل قائد مظاهرات في مدينته حمص، ومحرضًا عليها، وكان أيضًا مغنيًا لأناشيد رددها الناس في المظاهرات، وفي البيوت، وفي حفلاتهم الخاصة، ثم قائدًا عسكريًا لكتيبة مقاتلة أسسها بنفسه ليفك عبرها الحصار عن مدينته حمص، وهو بعمر العشرين، ثم مقاتلًا في كل مكان ومع الكثير من الفصائل، ثم شهيدًا... كان يقود المظاهرات، ويغني، ويقاتل ويُصاب ويحاصَر، وكان مبتسمًا على الدوام، ثم شهيدًا كما أراد. سأله أصدقاؤه -مازحين- فيما لو لم يكن ثمة ثورة، ماذا يقول لحبيبته، فأجاب: "الموت حق وأنا أريد حقي".

اقرأ/ي أيضًا: الساروت في رحم الضمير الشعبي

ثمة عوامل عديدة تتضافر على نحو ما، غامض في الكثير من الأحيان، لتصنع شخصًا مثل الساروت.

أن يكون للثورة السورية رمزًا على هذا المستوى الكبير، وأن يكون لسوريا هذا الرمز، الرمز الذي عاش بين الناس ولأجلهم وأحبوه وارتضوه رمزهم ولم يتم فرضه عليهم لا بالاستبداد السياسي ولا العسكري ولا بالاستبداد الديني، هو ما يجب علينا كسوريين أن ندفع به ليكون عامًّا وعالميًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ماذا بعد الساروت: موت أم حياة؟

حرب على صورة الساروت واسمه