06-يناير-2022

كاريكاتير لـ أموريم/ البرازيل

في بداية العام المنصرم شن عالم الكومبيوتر البرازيلي جورجيو ستولفي هجومًا حادًا على بيتكوين، بوصفها إحدى موجات الاحتيال الكبرى الجديدة. ستولفي فنّد مزاعمه في دراسة تفكيكية لهيكلية العملية الاستثمارية في بيتكوين. مفترضًا أنها أكبر موجة احتيال عرفها العصر الحديث، ورفض مقارنتها بالبونزي سكيم التي اشتهرت كأول فضيحة احتيال مالية في 1920، وبعملية الاحتيال التي كان بطلها بيرني مادوف والتي قدرت بـ 65 مليار دولار أمريكي. وقد عوقب بسببها وحكم بالسجن لمئة وخمسين عامًا سنة 2009، ومات في سجنه العام الفائت.  

يرتكز ستولفي في تفكيكه لعملة بيتكوين على فكرة بسيطة جدًا مفادها أنها تقوم على التبشير فقط، فلا دواخل ولا قيعان لها

يرتكز ستولفي في تفكيكه هذا على فكرة بسيطة جدًا مفادها أن بيتكوين تقوم على التبشير فقط، فلا دواخل ولا قيعان لها. فمنطق الاستثمار في الأسواق المالية يرتكز في الأساس على بنية قيمية، يتمثل بشراء حصص مساهمة(equity)  أو ديون، وما يمكن أن ينتج عنهما من مشتقات مالية. فسعر السهم التداولي المحدَّد بالمضاربة، أكان حصة مساهمة أو دَينًا، يخضع في المقام الأول لأداء الجهة المصدِرة، أكان شركة أو دولة. بيتكوين، من جهتها، لا تتمتع بهذه البنية القيمية، والاستثمار فيها هو كمن يستثمر في ورقة يانصيب. بمعنى آخر لا ينتج إطارها الاستثماري غير ربح سلبي.  

اقرأ/ي أيضًا: العملات الرقمية.. فقاعة اقتصاديّة أم مستقبل للتداول المالي عالميًا؟

غياب هذا البنية القيمية الداخلية للتداول المالي (حصص مساهمة أو ديون) يجعل من الاستثمار في بيتكوين يشبه عملية استغفال للمستثمرين، من طالبي الربح السريع. حيث إن استثماراتهم الجديدة تُستعمل كرافد لتأمين السيولة في منحى دائري مغلق. وعلى هذا المنحى تنزرع آليات ضخ الوهم التي تؤدي إلى ارتفاع أسعار العملة المشفرة وأشباهها. من العملات الأخرى. وهذا الوهم بدوره يجذب المستثمرين مجددًا. أي أن الأرباح التي يجنيها المستثمرون البائعون لحصصهم تُدفع لهم من استثمارات أخرى جديدة دخلت مؤخرا إلى الشبكة. وبين هاتين العمليتين الدائريتين، يقتطع عمال مناجم البيتكوين حصتهم.

ستولفي يشير إلى أن مجمل الخسارات الاستثمارية أكبر حجمًا من الأرباح المستوفاة. وهذا الاستشراف السلبي إذا ما أُخذ إلى المدى الأقصى المنطقي الممكن، أي إذا ما حدث وهوت قيمة هذه العملة التداولية إلى الصفر فلن يستطيع المستثمرون الخاسرون آنذاك مقاضاة أي جهة. فليس هناك أي شخص فردي أو معنوي يستطيع القانون ملاحقته ومحاسبته، مقارنة بالدعاوى التي رُفعت على بيرني مادوف وغيره من أباطرة الاحتيال. وأحسب أن انتفاء قدرة المساءلة القانونية هي إحدى سمات بيتكوين التي تتلاءم مع أسطورتها المؤسسة، المتمثلة بالانعتاق من سلطات الدول والمصارف المركزية.

بيتكوين وسائر عملات الكريبتو تنشط في بنية جديدة يتقاطع فيه السحري، بالأسطوري، بالميتافيزيقي، بالرياضي التقني. ويتجمع هذا التكثيف في نقطة توتر يختلط فيها الدعوي بالإثارة والنشوة. فيما يغلف الحسد فضاءها الذي يعزلها عن غير المنتسبين إليها، وأولئك الخاسرين المنسحبين في آن معًا. يحدث هذا في مشهدية تمثيل يحركها ازدراء من يجهلون تلابيبها، أو وقعوا في التباس تقلباتها، أو شككوا في جدواها، أو تخلفوا عن قطارها المنطلق إلى السعادة المطلقة. وما يضبط هذه السردية ليس إلا قناعة إيمانية راسخة بحتمية التضحية الشجاعة وبوعد يقيني بالربح، عندما يصدق العرافون ويرتفع المؤشر صعودًا في الجولات القادمة، فمن يصبر كثيرا يضحك أخيرًا. وفي هذا تمثل بيتكوين ظاهرة تعبر التاريخ الحديث، من التنوير فالحداثة إلى الرياضي الوضعي، بسرعة قياسية وفي صعود مكثف منذ انطلاقها في 2009 من دون انقطاعات إلا تلك الفجوات التي يحفرها انخفاض سعرها المدوي والمفاجئ في زمن تمددها، مخلفا خسائر فادحة لمن لم يحالفهم الحظ.

فمع تقلبات أسعار السوق الحادة والخسارات التي يمنى بها المستثمرون يتمدد فوق تلك الظاهرة شبح جديد يزداد اتساعًا يومًا بعد يوم على شكل معتَنق إيماني يدعو الناس للاستثمار مجددًا في هذه العملات الرقمية، ممجدا الأب المؤسس ومعددًا فضائلها الخلاصية على البشرية جمعاء.

بيتكوين وسائر عملات الكريبتو تنشط في بنية جديدة يتقاطع فيه السحري، بالأسطوري، بالميتافيزيقي، بالرياضي التقني

سردية بيتكوين يرددها وينشرها مبشرون على شكل رسل وعرافين يحتلون الفضاء التواصلي على الشبكات الاجتماعية ويؤمهم نجوم وأرباب صناعات في ميادين يتقاطع فيها التقني والمالي والسياسي. ويملك هذا التشكل الاجتماعي عصبًا هوياتيًا ينظم الدخول إلى عوالم الكريبتو الدعوي هذا من خلال سمتي الاستثمار والتنقيب، محيلًا من لا يقع ضمن هذه التصنيفات إلى خارج عن التاريخ.

اقرأ/ي أيضًا: عصر إنتاج النقود

وحيث إن هذه الظاهرة، التي تنمو في كنف أسطوري وسحري، بدأً من نقطة انطلاقها المرتبط بلغز الأب المؤسس المجهول الهوية وإعطائه اسمًا وهميًا، "ساتوشي ناكاموتو"، فإن التكهنات حول هويته باتت تشكل جزءا من الخطاب المتصاعد لهذه الظاهرة، أي أن هذا التلغيز يتعدى التأسيس إلى مواكبة نمو الأسطورة وانتشارها في يوميات المضاربات بشكل سحري. ففي حمى الشائعات هذه وفي أعقاب خسائر جمة في نهاية شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي فقدت فيها أسواق الكريبتو حوالي المئة مليار دولار من قيمتها التداولية، عمد ألون ماسك، وهو أحد الرسل والمستثمرين الكبار، إلى ذر الرماد في العيون، بتصريحه أنه يعرف من هو "ساتوشي ناكاموتو"، مؤكدًا أنه نيك زابو أحد الرواد المؤسسين لتكنولوجيا الكريبتو والذي يرفض بدوره هذه النسبة. وهذا ويؤمن رهط آخر من العرافين أن ألون ماسك نفسه هو ساتوشي.

تنحو سلوكيات المبشرين بهذه التكنولوجيا اتجاه تخليد أئمتها ورسلها، وإقامة نصب لهم وشعائر خاصة بهم من قبيل إزاحة الستار عن تمثال لساتوشي في بودابست يجمع في فرادته خلوه من ملامح الوجه وهالتي الجندي المجهول والأب المؤسس.

مراجعة أداء البيتكوين والعملات الرقمية الرديفة وملاحظة الخسارات الكبيرة التي مني بها المستثمرون، تظهر أن هذا الأداء لا يستند على أي أساس علمي. وهذا أحد أبواب سحرها. إذ أن الخسائر الفادحة مرتبطة بالحظ في المقام الأول وبرقة حاشية المحللين الماليين والمبشرين بها في تفسيرهم السلوك المتقلب، والاكتفاء بالإشارة إلى لطلب الشديد عليها، والادعاء غير المسنود بأن الطاقة الكامنة فيها لن تستكين، والإيمان الأعمى بأن ما خسروه اليوم سيتضاعف أرباحًا غدًا. فالإقبال الشديد والابتهال بالجديد فيها هو ما يؤمن استمراريتها ويضاعف من سِمتها السحرية.

أحسب أن عجز الحكومات عن لجمها سريعًا يعود في المقام الأول إلى خوف المشرعين من اتهامهم بخنق التطور والتحديث، وهذه اتهامات تصيب في المشرعين مقتلًا، لأنها تصور هؤلاء بوصفهم معادين لفلسفة النمو الاقتصادي. وفي هذا يلتحف السحر بنظرية التطور ويتنغمان لإطلاق بشارة خلاصية تزعم القدرة على الانتصار على مآسي العالم ما يساهم في شد عصب هذه الهوية الناشئة. 

إضافة لسمات الشعوذة هذه، تتسلح سردية بيتكوين وسائر العملات الرقمية بخصائل خلاصية مصدرها تقنية البلوك تشاين، التي تأخذ على عاتقها مهمة إعتاقنا من هيمنة السلطات المركزية، أي تحرير حركتنا وأجسادنا من هيمنة الأخ الأكبر ورقابته. ويضاف إلى هذا الانعتاق أيضًا شفافية تامة من خلال تسجيل التداولات ونقشها المشفر بالتوازي على جميع الخوادم المشكلة للشبكة. وهذه الشفافية القصوى تمثل باب الأمان والسد المنيع في وجه الاحتيال وإخفاء الحقائق التي تلازم سمعة الحكومات والشركات الكبرى والمصارف. 

سردية بيتكوين يرددها وينشرها مبشرون على شكل رسل يحتلون الشبكات الاجتماعية ويؤمهم نجوم وأرباب صناعات في ميادين يتقاطع فيها التقني والمالي والسياسي

غير أن خشبة الخلاص أعرض من مجرد رمث نجاة، فخصائص التكنولوجيا هذه متعددة الأوجه، ذلك أنها تستطيع أن تحل محل طرق وأنماط تداولية واستهلاكية كالكريديت كارد، العمليات المصرفية، بوالص التأمين وحتى نظام الهويات الرقمي وغيرها من قطاعات اقتصادية وصناعية أخرى. وبهذا تضيف هذه الأسطورة على ادعاءاتها، ادعاء الانتصار على الطبيعة السيبرنطيقية التي بنيت فوق شبكة الإنترنت التي صنعها تيم برنزلي نهاية القرن الماضي، والتي تضخمت لتصبح مساحتنا الافتراضية وتشكل صورتنا العلمية عن أنفسنا. 

اقرأ/ي أيضًا: خراب الاقتصاد العالمي.. وجه كورونا القبيح

فضلًا عما تقدم كله، ثمة ما يستدعي التفكر مليًا في هذه الأسطرة المجتاحة. وهو ما يتعلق بالتجاهل المريب الذي تمارسه هذه الهوية المؤسطرة تجاه الطبيعة الأم. خصوصًا في ما يتعلق بحجم استهلاك تعدين عملات الكريبتو للطاقة الكهربائية. وفي تقديرات متفاوتة تستهلك بيتكوين حوالي نصف بالمئة من استهلاك العالم، أي ما يعادل استهلاك دول متل ماليزيا، السويد أو إيرلندا. غير أن ما يبدو صاعقًا في هذا الأمر لم يحرك حمية علماء الاحتباس الحراري ويدعوهم للاعتراض.

بيتكوين تريد تغيير العالم إلى الأفضل من خلال أسواق المضاربات المالية، وتطلق حملة دعوية هائلة هي مثابة مرقة التين التي تغطي عورة خلوها من أي بنية داخلية مالية، وبالتالي افتقادها للآلية الميكانيكية الشارطة لاندراجها في سوق المضاربات المحتكم لآليات قانونية. وبهذا يتسلح مبشروها بخلاصنا من تسلط السلطات علينا تحت حجة التحديث، ويفاقمون تلوثًا بيئيًا يجثم على صدورنا. فيما نبدو من دون خيارات، ولا نجد مفرا لنا من تبعاتها، غير الاستمتاع بمشاهدة هذه الموجة الخلاصية المحمومة تجفف إيجابية العلم المغالية وترتطم بواقعية الأسواق، ومواظبة المشرع على محاولات لجم جموح العرافين. وسيواكب مشاهداتنا هذه تسلل اهتمام رأس المال إلى ألعاب رياضية أخرى اقل ادعاء خلاصيًا كالميتافيرس الواعد بحيوات تواصلية موازية والذي بدأ يخط أشكاله في عقول المبشرين والمستثمرين.

متعنا ستكون شيقة وحافلة بأساطير جديدة للعلوم المعلوماتية والبصرية تفتتح حيزًا للتسالي والأحجيات الإلكترونية البديعة، لمساعدتنا في التخفف من ثقل الوقت وتكريس العزلات. والأرجح أن هذه العلوم ستخرج رويدًا رويدًا من رصانتها إلى أحياز تجاور فيها العبث والخفة. وفي هذا شيء من اندثار الهالة المثالية المحايدة التي غلفت هذه العلوم نفسها بها منذ قرون.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا يجب أن يقلق العالم من ازدياد قوة الدولار؟

فك الارتباط بين النمو الاقتصادي وانخفاض سعر النفط