25-مارس-2020

(Getty) متجر لشركة آبل في بكين

نجح فيروس كورونا بعد تحوله إلى وباء عالمي قاتل في وضع مسؤولي حكومات بلدان العالم أمام معضلة حقيقية، عنوانها المفاضلة بين الحفاظ على صحة مواطنيهم أو الحفاظ على موارد عيشهم الاقتصادية. ففي حال قرر المسؤولون الحكوميون الإنصات لنداء العقل في إنقاذ اقتصاديات بلدانهم الوطنية من خطر تباطؤ النمو الاقتصادي، عبر الامتناع عن فرض إجراءات الحجر صحي واسعة النطاق، كي يحولوا بين تأثر مداخيل العاملين في مجال الخدمات الترفيهية (كالمباريات الرياضية والمهرجانات الثقافية والأنشطة الترفيهية، وكل ما يتعلق بها من أنشطة الفندقة والمطاعم ورحلات الطيران) وتوقف تنظيمها على المستوى الوطني؛ فإنهم سيصطدمون بحقيقة عدم كفاءة أنظمتهم الصحية بالتصدي لمثل هذه الجائحة، التي كانوا لوقت قريب يفاخرون بنجاعتها في التصدي لمشكلاتهم الصحية.

يعني تراجع مستوى النمو العالمي إلى مستوى 1.1 %، خروج آلاف العمال من سوق العمل

في ظلّ غياب القدرة الدولية على إيجاد لقاح فعال لفيروس كورونا المستجد في غضون فترة قصيرة، فإن جميع الجهود المنصبة الآن على طرق إبطاء حركته إلى أقصى حد ممكن، أملًا في منح القائمين على إدارة القطاع الصحي مهلة زمنية لتدارك أمر إنهيار نظامهم هذا. دون أن يخطر على بالهم أنهم يخوضون صراعهم هذا، في كنف نظام آخر على وشك التضعضع والسقوط. فمنذ أن أعلن كورونا عن حضوره في حياة الناس وصحتهم، والاقتصاد العالمي يتجه نحو التباطؤ ليصل إلى مستوى نمو 1.1 % بعد أن كانت جميع التوقعات تضعه في صدارة الـ3.9 %.

اقرأ/ي أيضًا: اتحاد أوروبي بلا أوروبيين.. كورونا والقوميّة المتخيّلة

يعني تراجع مستوى النمو العالمي إلى مستوى 1.1 %، خروج آلاف العمال من سوق العمل، فمع اضطرار الشركات الصغيرة والمتوسطة لإغلاق أبوابها لفترة قد تمتد من شهرين إلى ستة أشهر، سيؤدي ذلك حتمًا لإفلاسها نتيجة لعدم قدرتها على دفع التزاماتها المالية، الأمر الذي سيضطرها لوقف أعمالها ومن ثم تسريح عمالها. فإذا ما علمنا أن نسبة تلك الشركات من مجمل الشركات العاملة في الولايات المتحدة تقارب الـ75 % منها، فلنا أن نتصور حجم البطالة التي ستضرب الاقتصاد الذي يشغل ما يقارب الـ170 مليون عاملًا، وحجم التراجع في قيمة إنتاجه المحلي الذي يقارب الـ22 ترليون دولار.

تجر خسارة أي عامل لعمله في سوق العمل إلى خسارة مزدوجة على صعيد الاقتصاد الوطني، تتمثل الأولى بانخفاض حجم الناتج المحلي لبلد ذلك العامل بمقدار ذلك الدخل الذي كان يحصل عليه، فيما تنعكس الأخرى على شكل انخفاض في طبيعة الطلب الفعال على السلع الأخرى، تلك التي ستظل حبيسة مخازن الأسواق، لأنه لا يوجد مال في يد من يرغب بامتلاكها. إن حجم الخسارة التي ستصيب مجموع دخول عمال العالم لهذا العام وفق تقديرات منظمة العمل الدولية ستبلغ ما يقارب الـ 3.4 ترليون دولار، ستكون مؤشرًا على دخول الاقتصاد العالمي في الركود، بمقدار قد يصل إلى 1 % أو وهو ما قيمته الترليون دولار، الأمر الذي سينعكس بدوره على تسريح ملايين العمال، كما على تراكم بضائع في الأسواق مقدرة بمليارات الدولات، لا تجد من مشترٍ أو راغب بها.

في السيناريو الوردي، لا يزال الاقتصاديون يمنون النفس بأن تكون الآثار الضارة، التي سيلقي كورونا بظلاله على الاقتصاد العالمي، محصورة في الركود، الذي يتجلى على شكل انخفاض في قيمة الإنتاج العالمي الحالي مقارنه بما تم إنتاجه في العام الذي سبقه، ذلك أن الركود يظل في دائرة النمو وإن كانت نسبته لا تتجاوز الـ 1 %، التي تبلغ بلغة الأرقام ما يقارب الترليون الواحد. إلا أن السيناريو الأسوء يظل متوقفًا على تحول أزمة الركود الحالية إلى أزمة مالية قد تعصف بسوق الأسهم، فإذا ما استمرت الشركات في مراكمة الخسائر في عملياتها التجارية، نتيجة لتوقف الإنتاج في بعض فروعها، أو عدم قدرتها على تصريف منتجاتها في بيئة محاطة بإجراءات الحجز الصحي، تتمحور حاجات أصحابها على الاكتفاء بحاجات الطعام والنظافة الشخصية؛ فإن أسعارها ستهوي إلى مستويات قياسية، جالبة بذلك الدمار لرأسمالها ولأصولها المادية المتعلقة بأدوات الإنتاج، ناهيك عن الآثار التي ستجرها على إفلاس شركات التأمين والمصارف الممولة لها، التي لن تستطيع الوفاء بحاجة تلك الشركات للسيولة كما حاجة مودعيها لاسترداد أمولهم .

تحول أزمة كورونا من أزمة اقتصادية إلى أزمة مالية سيطيح ببنية الإنتاج العالمي

إن تحول أزمة كورونا من أزمة اقتصادية متعلقة بضعف القدرة على التسويق، إلى أزمة مالية متعلقة بضعف قدرة المؤسسات المالية على توفير المال اللازم للراغبين بالاستثمار سيطيح ببنية الإنتاج العالمي، المتمثل بالشركات، وسيؤدي إلى إخراج ملايين العمال من سوق العمل، وصولًا إلى انخفاض قيمة الإنتاج العالمي إلى مستويات خطيرة قد تنقله من مرحلة الانكماش البسيط، إلى مرحلة الانكماش العميق المعروف بالكساد، الذي قد تطول مدته أو تقصر لعدة سنوات.

قد يكون الأسوأ في الآثار التي سيعاني من الاقتصاد العالمي لم يأت بعد، فبدلًا من الحديث المتفائل عن دخول الاقتصاد العالمي في مرحلة من الركود أو الانكماش التي قد تطول أو تقصر لتعقبها حالة من النمو، فإن الاقتصاد العالمي اليوم أمام تحدي الدخول في مرحلة الانهيار الكامل أو الجزئي، الذي قد يكون على شكل عجز عن القدرة على الوفاء بحاجات الناس اليومية في حال استمرت إجراءات الحماية الجماعية لفترة طويلة قد تتعدى الأشهر.

تنطلق السياسة الاقتصادية التي لجأت إليها الحكومات لمعالجة الآثار الاقتصادية المدمرة التي أفرزها وباء كورونا، من فرضية بسيطة، تقوم على التعامل مع تلك الآثار من حيث كونها أزمة ركود اقتصادي، تكمن طبيعتها بتوفر البضائع في السوق دون توفر الأموال اللازمة لشرائها. لذا كانت أولى خطواتها مركزة على حشد الموارد المالية الضخمة، بقصد توفير السيولة اللازمة في أيدي المتضرريين ممن تعطلت أعمالهم، بقصد تمكينهم من شراء حاجياتهم من البضائع المكدسة بالأسواق، كما تمكينهم من الحصول على المال اللازم على لدفع التزاماتهم المالية المتعددة، سواء ما تعلق منها باستحقاقات رواتب العمال أو الالتزامات الأخرى.

حشدت الحكومات موارد ضخمة لتوفير سيولة في أيدي المتضرريين تمكنهم من شراء حاجياتهم من البضائع المكدسة بالأسواق

في الوقت الذي كانت فيه عين الحكومات مركزة على توفير السيولة لأصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة، فأنها أبقت أعينها مفتوحة على المشاكل المالية التي قد تعاني منها الشركات الكبيرة الخاصة بمسألة توفير السيولة اللازمة لأنشطتها، فعمدت إلى خفض سعر فائدة البنك المركزي، لتساعد المصارف على توفير السيولة اللازمة لها في إقراض تلك الشركات، أو توفير المال الازم لشركات الاستثمار.

اقرأ/ي أيضًا: كورونا من منظور أوروبي.. أسئلة الوحدة والتفكك

قد تبدو الأرقام المرصودة لمعالجة مسألة توفر السيولة، كما ضمان حماية الشركات من خطر الإفلاس أو الإغلاق كبيرة للغاية وكافية، إلا أنها قد تبدو ضئيلة وتافهة في حال اضطرت فيها الحكومات على المضي قدمًا في سياستها الحمائية لفترة قد تتجاوزالستة أشهر. الأمر الذي قد يضعها إما أمام اتباع سياسة حمائية خاصة بالأفراد، الذين هم أكثر عرضة من غيرهم للإصابة كفئة كبار السن، أو يضعها أمام مغامرة غير محسوبة النتائج، تقوم على فكرة التضحية بمصالح بعض الناس مقابل إنقاذ مصالح الكتلة الأكبر منهم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أزمة الخطاب الإعلامي المرئي في زمن الكورونا

في أوروبا.. "حفلات كورونا" بين الشباب و"فاشيّون" يسعلون في وجوه المارّة