27-يونيو-2021

عملات البيتكوين التذكارية في ييتشانغ في الصين (Getty)

في خبر تناقلته صحف ووكالات، ورد أن عشرات الآلاف من مُعدّني العملة الرقمية بيتكوين قد يهاجرون من الصين إلى الولايات المتحدة بسبب التضييق الذي تمارسه الحكومة الصينية عليهم، ضمن خطتها لتقنين استخدام الكهرباء لدواع بيئية. والوجهة الجديدة ستكون على الأرجح ولاية تكساس التي تنتج ما يقرب من 20 بالمئة من الطاقة الكهربائية بواسطة الرياح. ما يجعل كلفة استخدام الطاقة في هذه الولاية الأرخص على مستوى العالم.

اقتصاديون كثر لا يثقون في سوق العملات الرقمية. لكن وقائع السنوات الماضية أثبتت أن هذه العملة قابلة للتداول والحياة وقد تكون مرغوبة أكثر مما يحسبون

وسائل الإعلام التي تناقلت الخبر ركزت على منافع تكساس من هذه الهجرة المحتملة، والخسارة التي قد تمنى بها الصين جرائها. لكن ما أهملته هذه الوسائل يتصل مباشرة بمعنى الوظيفة التي يشغلها هؤلاء المعدنون. التقديرات تشير إلى أن أكثر من خمسة ملايين شخص على امتداد العالم يعملون في تعدين العملات الرقمية. وهذه عملية خلاصتها أن يقوم المعدّن بصناعة نقود رقمية. نقود تصنع من الجهد الفائض للحواسيب المتقدمة، وليست نتاج عمليات تبادل سلعي أو خدماتي. عليك أن تصل حواسيبك بالتيار الكهربائي فقط وتصنع نقودًا، تدفع منها ما استهلكته هذه الحواسيب من التيار الكهربائي، وتخزن الباقي منها على النحو الذي ترتأيه.

اقرأ/ي أيضًا: ماردٌ يسرق شبح ماركس: تدمير العالم من أجل إنقاذه

اقتصاديون كثر لا يثقون في سوق العملات الرقمية. لكن وقائع السنوات الماضية أثبتت أن هذه العملة قابلة للتداول والحياة وقد تكون مرغوبة أكثر مما يحسبون. مراقبون آخرون يؤكدون أن رواج هذه العملات متعلق أساسًا بأن عمليات مراقبتها من قبل السلطات المالية في العالم صعبة جدًا، وتاليًا يستطيع المرء أن يشتري ويبيع بواسطتها سلعًا ممنوعة من التداول العلني والقانوني، وتنشط تجارتها في الأسواق السوداء، سواء منها الخاصة بالعالم الافتراضي أو تلك التي تنشط تجارتها في المناطق التي تضعف فيها سلطة القانون والشرطة على حد سواء.

إنما، ومع هذا كله، فإن المسألة المستجدة في كل هذا تتعلق بصناعة النقود. النقود، التي لم تغادر حتى اللحظة الراهنة وضعية الوسيط بين السلعة ومستخدمها، أصبحت الآن سلعة يتم إنتاجها. النقود التي يقول فيها الاقتصاديون إنها ليست أكثر من رموز لا قيمة لها من دون سلطان الدولة التي تطبعها، باتت الآن شيئًا يمكن صناعته وتسليعه.

كان كارل ماركس يكرر دائمًا أن الطبقة العاملة لا تخسر في الثورة غير قيودها، لأنه لاحظ، محقًا، أن العامل ينتج شيئًا منفصلًا عنه تمامًا، سلعة قد لا يحتاجها في أي يوم من الأيام، ويحصل مقابل جهده على قدر من النقود تمكنه من الاستمرار في هذا العمل. وتاليًا فإن جهده ووقته يضيعان في ثقب أسود، ولا يبقى له من حياته سوى أوقات فراغه، باعتبار أن الوقت الذي ينفقه عاملًا هو وقت ضائع ومهدور. النقود في معادلة كارل ماركس، هي ما يعين العمال والأجراء وكل الناس على اختيار أنماط حياتهم. فبوسعك أن تعمل في مصنع أدوات رياضية، وتأخذ أجرًا تنفقه على كل ما يخالف أنماط حياة الرياضيين ويناقضها تمامًا. والحال، فإن الإنسان منذ بدايات العصر الصناعي على أقل تقدير تحول من منتج لحاجاته، إلى بائع جهد ووقت، ينفق أثمانهما في ما يراه مناسبًا له، وهو ما قد يكون مختلفًا تمامًا عما يجيده في حياته العملية.

ما الذي يتغير في هذه المعادلة مع انتشار تعدين النقود على النحو الذي سلفت الإشارة إليه؟ أول الملاحظات البالغة الغرابة، أن الجهد الذي يبذله المرء اليوم لم يعد يُعنى على أي نحو بتأمين حاجاته أو حاجات الآخرين. لقد انفصل وقت العمل تمامًا عن غايته بخدمة الآخرين الذين يدفعون مقابل هذه الخدمات. وأصبح إنتاج النقود التي يُشترى بها متع وسلع وخدمات عملًا قائمًا برأسه، وغير متعلق بهذه المتع والسلع والخدمات على أي نحو.

الجهد الذي يبذله المرء اليوم لم يعد يُعنى على أي نحو بتأمين حاجاته أو حاجات الآخرين. لقد انفصل وقت العمل تمامًا عن غايته بخدمة الآخرين الذين يدفعون مقابل هذه الخدمات

على هذا، يلح على المرء سؤال من قبيل: أي المجتمعات والدول والشعوب هي القادرة اليوم على تأجيل إنتاج السلع الضرورية لاستمرار الحياة؟ وأيها غير قادرة على هذا التأجيل تحت وطأة المعاناة من الجوع والعطش والعري والتشرد؟ وإذا استمرت هذه الظاهرة بالتوسع، فهل يمكن أن تقبع شعوب بأكلمها في هوة العجز المستدام على نحو لا قيامة منه؟

اقرأ/ي أيضًا: "البيتكوين".. السقوط من القمة!

الأرجح أن العالم يعبر اليوم عصر الإنفاق الاستهلاكي إلى عصر آخر، قد تجوز عليه تسمية "عصر إنتاج النقود" وفي هذا العصر، ثمة شروط ينبغي أن تحوز عليها الأمم والدول لتتمكن من مواجهة الانصراف المتزايد عن النشاط البشري الممتد لقرون، والذي كانت سمته الأساسية تتلخص في إنتاج وصناعة الحاجات وتخزينها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

العملات الرقمية.. فقاعة اقتصاديّة أم مستقبل للتداول المالي عالميًا؟

خراب الاقتصاد العالمي.. وجه كورونا القبيح