01-فبراير-2017

جان بودريار (1929- 2007)

حوار مع السوسيولوجي الفرنسي جان بودريار (1929-2007) قام به كل من سوزان مور وستيفن جونستون لصالح مجلة "الماركسية اليوم" البريطانية (كانون الثاني/يناير 1989)، ونُشِر في نسخته الأصلية تحت عنوان "سياسات الإغواء (The Politics of Seduction)". وقد اعتمدتُ هنا النسخة المدرجة في كتاب "Baudrillard live: Selected Interviews" الذي حرّره مايك غين (روتلدج، 1993). يأتي هذا الحوار في سياق حوارات نادرة يعيد "ألترا صوت" تسليط الضوء عليها.


  • يدور كتابك الأخير حول أمريكا وقد علَّقت أن: "كل الثيمات التي استُكشِفَت في كتبي السابقة ظهرت مبسوطةً أمامي فجأةً في شكل متماسك". أسئلةٌ حول فقدان الواقع، وأوليَّة الصورة، وسلبيَّة "الجماهير" تعاود الظهور في كتابك الجديد، كما تقول إنه ليس ثمة أمل في المجتمع الأمريكي. لكن، ما الذي يمنحك الأمل؟

قلتُ فيما مضى إن الأمل إلى حد ما قيمة غير ضرورية. ونحن في فترة ليس الأمل فيها بالفكرة شديدة الوضوح. أدرك أن اليوتوبيات نشطةٌ جدًا في الولايات المتحدة - الحركة الخضراء، الحركة النسوية، وما إلى ذلك مما يُنعَت بالحركات الجالبة للأمل التي تطمح إلى أن تكون ثورية. لكن في الحقيقة الفعلية لفرط الواقع (hyper-reality) الأمريكي، هذه الحركات جزء من لعبة الدعاية نفسها. ربما ليسوا جزءًا من السلطة الرسمية، لكنهم مع ذلك يلعبون دورًا في عملية الدعاية العملاقة التي هي أمريكا.

جان بودريار: في أمريكا، الفعل هو المهم ولا يهم ما إذا كانت الأفكار جيدة أم سيئة

إنهم ليسوا أبرياء من هذا أو غير ملوثين به، وبهذه الطريقة يملكون موقفًا سطحيًا هائلًا بشأنه. يستمرون في التغير. تظهر حركات وتختفي لكن ليس لأن الأفكار جيدة أو سيئة، وإنما ببساطة كدليل على الحيوية - الحيوية المادية للواقع الأمريكي الذي هو في تغير مستمر. من هنا، لا أرى أنه يمكن توصيف هذه النوعية من المسائل عبر مصطلحات السياسة. لا أؤمن بالحركة الإيكولوجية لكني أَفْعَلُها. ليس على المرء أن يؤمن بها من أجل أن يفعلها، ويروق لي القول إنني أفعلها! في أمريكا، الفعل هو المهم ولا يهم ما إذا كانت الأفكار جيدة أم سيئة. كمثال على تحويل وتبديل الطاقة، لا تزال أمريكا حيّة للغاية. أكثر من أوروبا بكثير.

اقرأ/ي أيضًا: مأساة الأدب

  • في كتابك "أمريكا" تصف الثقافة الأمريكية بأنها "مبتذلة ولكن سهلة"، وأنها ثقافة لا يقدر مثقفوها على تحليلها. ألا يفترض هذا الكلام ضمنًا نوستالجيا نحو الثقافة الأوروبية، خاصَّة الثقافة الأكاديمية؟

نعم. الموقف الأوروبي ملتبس جدًا. يرى النموذج الأوروبي الثقافة الأمريكية على أنها سطحية ويحللها بطريقة سطحية. بيد أن الثقافة أو بالأحرى اللا-ثقافة الأمريكية أصلية تمامًا في حد ذاتها. وهي لا تقتصر على العَوز الثقافي كما أنه لا حاجة إلى تفسيرها سلبيًا. يجب أن توضع كلمة سطحي بين مزدوجين، لأني أخذت الطريقة العادية والتافهة في النظر إلى أمريكا وحوّلتها. هذه اللا-ثقافة إيجابية في حد ذاتها ولا ينبغي أن يُنظر إليها عبر عيني النوستالجيا الأوروبية.

  • لو أن المثقفين الأمريكيين غير قادرين على فهم ثقافتهم، فهل تتفق مع إمبرتو إيكو الذي يقول إن الأستاذة الجامعيين الأمريكيين يجب أن يحالوا إلى التقاعد؟ وهل من الممكن أن يمتلك طلاب المدارس الثانوية فهمًا بديهيًا لمجتمعهم لا يستطيع المثقفون امتلاكه أبدًا؟

نعم. ثمة إمكانية للفهم عن طريق البداهة. لكن المثقف الأمريكي لا يستطيع فهم ثقافته لأنه محبوس في غيتو ثقافي. وأسلوبه الدفاعي الذي يتمثل في محاكاة الثقافة الأوروبية يوضح لماذا هناك فارق كبير بين المثقف الأمريكي والثقافة الأمريكية. بالطبع، يمتلك الشباب بداهة أكثر حيوية وليسوا في هذه الوضعية الزائفة.

جان بودريار: المثقف الأمريكي لا يستطيع فهم ثقافته لأنه محبوس في غيتو ثقافي

حين أردت دراسة فرط الواقع الأمريكي بنفسي، رفض زملائي المشاركة، ولذلك لن أقول مع إيكو إنه يجب أن يحالوا إلى التقاعد. لكني حقيقةً أود لو أرسلهم إلى الصحراء.

  • آه نعم، الصحراء! تقول: "الصحاري تكوينات سامية بعيدة عن كل مجتمع، وكل سنتمنتالية، وكل جنسانية". وتقترح أيضًا أنه: "على المرء دائمًا أن يُحضر شيئًا للتضحية به (sacrifice) في الصحراء ويقدِّمه كضحية. امرأة. إذا كان لشيء أن يتوارى هناك، شيء يعادل الصحراء في الجمال، لماذا لا يكون امرأة؟" ما هو الهدف من مثل هذا التصريح الاستفزازي غير المبرر؟ هل النتيجة الطبيعية لذلك أن يُضحى بفيلسوف ما بعد حداثي في وسط المدينة؟

لعلها فكرة جيدة جدًا أن يُضحى علانية بفيلسوف ما بعد حداثي. طبعًا، هناك قدر معين من الاستفزازية في الصورة التي طرحتها حول التضحية بامرأة، لكني لا أعتبر بالضرورة مصطلح "تضحية" سلبيًا. أنظر إليه على أنه شيء إيجابي. ثمة قدر معين من التضحية المتبادلة في الإغواء (seduction)، على سبيل المثال. شيء ما يجب أن يموت لكني لا أراه مضطرًا إلى محو شخص ما - ربما يجب على الشهوة والحب أن يموتا. التضحية بامرأة في الصحراء عملية منطقية لأن المرء يفقد هويته في الصحراء. التضحية هنا فعل سام وجزء من دراما الصحراء. وجعل امرأة موضوع تضحية ربما أكبر إطراء يمكن أن أقدِّمه لها.

اقرأ/ي أيضًا: الفلسفة والأدب.. سردية حب معلن

  • مؤخرًا، في نيويورك، كان هناك معرض يُدعى "مقاومة (ضد بودريار)" شارك فيه عددٌ من الفنانين البارزين. ما الذي تشعر به حين تواجِه كتاباتك كشيء يناضل ضده، ويطعن فيه على أنه سوداوي، ومتخم بالعطالة، ولا يقدِّم أي طريق إلى الأمام؟

كما قلت من قبل، هناك دائمًا عنصر من الاستفزازية فيما أكتبه. وذلك يضع نوعًا من التحدي أمام المثقف والقارئ كما يبدأ شكلًا من اللعب. طبعًا، إذا كنت تستفز فإنه عليك أن تتوقع استفزازًا مضادًا وبعضًا من ردود الفعل السلبية. والخبث الذي عليه الأمر مشوق للغاية. ويظهِر أن سلبيتي قد مرِّرت إليهم، ربما لا شعوريًا، وهو ما توقعته. يمكنني القول إنه ثمة فرط في رد الفعل (hyper-reaction) على عملي، ومن وجهة النظر هذه أكون قد نجحت.

  • إذن، ماذا عن موضع النساء في عملك. هل هن خبيرات إغواء؟

لست على اتفاق مع الأيديولوجية النسوية المتعصبة التي تقول إن المرأة كمغوية (seducer) تعبِّر عن دور مهين. في رأيي، استراتيجية الإغواء تُعد قوة مبهجة ومحررة للنساء. إنها تتغذى بالمحاكاة (simulation). للأسف، في النسوية كل شيء شاء حظه أن يكون أنثويًا يدافع عنه - الكتابة النسائية (l’écriture féminine)، الشعر، أي نوع من الإبداع الفني، وهذا يجعل الأمر مرآة للمحاكاة الذكورية. وتلك محاكاة سلبية ومؤسفة. يبدو لي أن الاستراتيجية الأنثوية للإغواء ليست اغترابًا (alienation) للمرأة، كما تؤمن النسويات. على المرء أن يترفع عن المعركة بين الجنسين ويبتعد عن الاغتراب الجنسوي (sexist alienation). ولا ينبغي أن يعارض الرجال والنساء بعضهما البعض. أعتقد أن المرء يمكن أن يستعيد الغواية الأنثوية كفضيلة إيجابية وهذه إحدى طرق التعامل الجيدة مع الأمر. لكني بالطبع أخاطر بأن يساء فهمي.

جان بودريار: من المهم نقد المرأة باعتبارها امرأة. ليس الإغواء مجرد استراتيجية جنسية

  • أليست تلك نظرة رومانسية للمرأة باعتبارها متعال (transcendent)؟ كما أن كثير من النسويات قد انتقدن بالفعل الجوهرانية (essentialism) التي تنتقدها.

من المهم نقد المرأة باعتبارها امرأة. ليس الإغواء مجرد استراتيجية جنسية، وليس أحادي الجانب. بل هو يقوم على التواطؤ. ثمة قواعد للعبة. إنها لعبة جسدية جدًا ومساواتية. ينخرط فيها كلا الجانبين بعمق ورهانات كبيرة. وهي تقريبًا أيديولوجيا لعبت على حساب الديمقراطية. يسعى الرجال جاهدين الآن من أجل إيجاد أيديولوجيا تعرِّفهم وأظن أنه يجب على الأنثوية أن تذهب أبعد من حدودها الضيقة، أبعد من الطريق التي ترى منه نفسها في هذه اللحظة.

اقرأ/ي أيضًا: الفلسفة والتاريخ: العروي يتأمَّل نفسه

  • إذن، هل يمكننا الحديث، والحالة هذه، عن الحب؟

هناك تمرُّد، لكني حقًا لا أعرف. ليس لدي الكثير لأقوله عن الحب. 

  • هل لديك أبناء؟ هل يجعلونك متفائلًا؟

لدي اثنان في سن الرشد. ربما كنت أبًا سيئًا لأني لم أسقط آمالي الشخصية عليهم. من ثمَّ، شقوا طريقهم بأنفسهم وقاموا بما أرادوا أن يقوموا به.

  • هل تقامر؟

نعم، في لاس فيغاس. وأحيانًا لست مقامرًا.

  • هل يُعد عملك مقامرة؟ وإذا كان كذلك، ما هي الرهانات؟

لا أعرف ما إذا كان يمكنكم دعوتها بالرهانات الثقافية. لكن يجب ألا تخلطوا الرهانات بالنتائج. المشكلة ليست أن تقوِّض العمل -ربما ليس لدى العمل أي رهان- فهو يدور حول نفسه حتى يتم استنفاده. الرهان، كما أعتقد، قد يكون حيوية العمل. يشبه تقريبًا لعبة البوكر. الرهان، بشكل ما، لعبة أبعد من المزايدة من أجل رؤية ما في أيدي الآخرين. الرهان أن يظهر الآخرون ما بأيديهم.

جان بودريار: الرهان، بشكل ما، لعبة أبعد من المزايدة من أجل رؤية ما في أيدي الآخرين

  • في "النشوة الاشتراكية (The Ecstasy of Socialism)" تندد بـ "السذاجة غير المعقولة لـ... الفكر الاشتراكي" . هل يعكس هذا الوضع ببساطة خيبة أمل من سياسات ما بعد 68؟ ألم تقم فقط بمبادلة أي اشتباك مع السياسيّ من أجل ولعٍ بلامعقولية ثقافة الاستهلاك؟

هناك مشكلة معينة لأن جيل 68 قد وضع كل شيء في اللعبة. كان هناك إنكار مذهل للثقافة، وتضحية بالقيم السياسية. بالطبع، بعد التضحية هناك خواء، خواء ثقافي. في أمريكا هذا الخواء تم حل محله ليس عن طريق ثقافة ما ولكن أحداث (events) تمتلك تبادلية مع المشهد السياسي لـ 68 - ألعاب نارية ثقافية.

إن راديكالية 68 قد مرِّرت إلى أحداث كبيرة كما يُمرر انهيار البورصة وظهور الإيدز - تلك هي الراديكالية الأمريكية. تلك هي الراديكالية التي لا مكان للمثقف فيها، المثقف بالمعنى التقليدي للكملة. لقد مرِّرت الراديكالية الثقافية إلى أحداث ومن ثمَّ تم تحييد المثقف. المثقف لا مستقبل له.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الصراع من أجل الاعتراف

"التراث" عند الجابري.. تمفصُلُ المغرب والمشرق