08-مارس-2016

غرافيتي في بورسعيد

أن يكون هنالك يومٌ واحدٌ وحيدٌ للنساء فهذا يعني، ببساطة، أنّ أيام السنة الأخرى كلها للرجال! وأنْ نخصص هذا اليوم لإرسال التحايا لهنّ، وتدبيج المدائح فيهنّ، فذلك يؤكّد ضلالة يومٍ يأتي كنوع من التطهر على سلب بقية الأيام منهن.

فكرة يوم المرأة فكرةٌ ضدّ المرأة، إذ تجعلها مناسبة لا تختلف عن يوم المرور العالمي، أو يوم النظافة، أو يوم الحفاظ على البيئة

فكرة يوم المرأة فكرةٌ ضدّ المرأة، إذ تجعلها مناسبة لا تختلف عن يوم المرور العالمي، أو يوم النظافة، أو يوم الحفاظ على البيئة. وضدّ المرأة أيضًا حيث تقول إنها ليست معنا بالمقدار ذاته، أو هي معنا لكن بدرجة أقلّ أو بحضور أدنى.

اقرأ/ي أيضًا: فلسطين.. نسوية وتمويل

إذا نظرت إلى مكتبة رجل، وأنا منهم مع الأسف، ستجد أنّ الكتب، التي ألفتها نساء أو التي تتحدّث عن نساء، لا تتجاوز الـ5% من نسبة العامة للكتب الموجودة. هكذا ستكون النساء أقلية في عيوننا نحن الرجال، وهكذا سوف من الطبيعي أنْ نخصص لهن يومًا ثم ننسى الأمر.

إذا كان من شيء يقال خلال هذا اليوم، غير أنّنا يجب أن نقف ضده، هو أن وضعية المرأة في عالم اليوم ليست على أفضل حال، فرغم النضالات الضارية والانتصارات الكبرى التي حققتها الحركات النسوية، لا تزال النساء موزعات بين أنواع متعددة من الاضطهاد والاستغلال، منها أنهن لا يزلن تحت الاحتلال حتى اليوم. صحيح أن شعوب الأرض قد انتزعت استقلالاتها، نساءً ورجالًا، لكنّ الصّحيح أكثر أن صوت النساء المعبّر عن حقهن في الحياة غاب خلال فترة الاستعمار على اعتبار أن قضية التحرر الوطني هي الأولوية، لا يزال يعاني الغياب نفسه، تحت استعمار من نوع آخر، يواصل تغييب أصواتهن بطريقة استعمارية، تبدع في محاصرة المرأة بصفتها الفردية أولًا، على العكس من الاستعمار الذي كان يوقع عسفًا جماعيًا على البشر.

الأمر نفسه يمكن قياسه على فترة العبودية التي عاناها السود في أمريكا، حيث نال الاضطهاد المرأة والرجل على حد سواء، لكن معاناة المرأة كانت مضاعفة حيث كان عليها أن تكون رجلًا من حيث أنها تتساوى مع الرجل الأسود في العمل والسّخرة وفقدان الاختيار، وفوقها كان عليها أن تكون امرأة ترضي انتهاكات السيد الأبيض جنسيًا، وهو يمارس ثنائية الاحتقار والاشتهاء. تحرّرَ العبيد لكن المرأة في المجتمعات السوداء ظلّت تعاني، كما أخواتها في المجتمعات الأخرى، أنها امرأة.

لا تزال النساء أقلية في المجتمع الإنساني، على الرغم من كونهن يشكّلن نصف المجتمع والحياة والوجود

لا تزال النساء أقلية في المجتمع الإنساني، على الرغم من كونهن يشكّلن نصف المجتمع والحياة والوجود. النّظرة السائدة في مختلف مجالات الحياة هي نظرة الرجال، فحيث إنهم من صَنَعَ العلم والثقافة والأدب والتاريخ، وحيث إنهم فعلوا كل ذلك من منظور ذكوري بحت، فحتى الأبحاث العلمية القديمة كانت تتم على أجساد الرجال. ولهذا بات على النساء تبني هذه النظرة للدخول في السياق العام، ما يعني أننا كثيرًا ما نرى نساء شكلًا لكن رجال عقلًا في المشهد السياسي العالمي. ومن المفيد هنا أن نتذكر أنّ النساء اللواتي حققن حضورًا إنما فعلن ذلك بعقل ذكوري فقط، وممارساتهن السلطوية لا تختلف عن ممارسات الرجال في شيء، ما الذي سيتغير في التاريخ لو قلنا للأجيال القادمة أن نساء من أمثال مارغريت تاتشر أو غونداليزا رايس هنّ رجال؟

اقرأ/ي أيضًا: نون النّسوة في المقاومة الفلسطينية

تأتي اللّغة السائدة في العالم ككل، وفي نظام الكتابة والتخاطب باللغة العربية أيضًا، لترسّخ الوضعية الدونية للمرأة، فحيث يجري التعامل مع كل مخاطب أو موجود ضمن صيغة التذكير وحسب، يعني أنَّ غيابًا أكثر بانتظار النساء، وإمعانًا أعتى في تحويلهن إلى أقلية مضطهدة.

عدو النساء الأكبر هو الحداثة، وبالذات إعلامها الشيطاني. لعله ليس جديدًا التحدث عما فعلته وسائل الإعلام على مستوى تنميط النساء، وتحويلهن إلى مجرد أجساد، وسلبهن كل حقوق التمايز الفكري. تقول سوزي أورباخ في كتابها "أجساد" إن مشكلة المرأة في زمننا هي ألاّ تشيخ. الدعايات والتجميل والصناعات والفيديو كليبات والأفلام والبرامج.. إلخ، كلها تؤكد للمرأة أنها ستكون شخصًا جيدًا لو كانت ذات جسد جيّد. وجسد جيد في مقاييس اليوم هو جيد نحيل ضامر، قليل الأكل كثير الأدوية، شاحب كأجساد المرضى.

الرهيب في الأمر أن النساء غارقات في هذا البئر، والإحصائيات تقول إن معدل الأموال المصروفة على عمليات تخفيف الوزن في أمريكا وحدها، تعادل ميزانية وزارة التعليم هناك تقريبًا. 

يمارس إعلام الحداثة المشعوذ نوعًا من السيطرة السحرية على النساء، فيقول لهن: كنَّ ديكورًا، اجعلن أجسادكن بطاقات هوية وتعريف، إياكنّ والاهتمام بأي معنى، الجسد هو المعنى، ابقين شابات نضرات شهيّات وحسب. 

معدل الأموال المصروفة على عمليات تخفيف الوزن في أمريكا وحدها، تعادل ميزانية وزارة التعليم

وبسبب هذه الأفكار باتت المرأة بثقة أقل بنفسها، بالإضافة إلى شعورها أنها ليست على ما يرام، ورغم أن عصرنا يبدو عصرًا للانفتاح والتعدد، سوف يصبح عصر عبودية حين تقترب المرأة من جسدها، كل تلك الديمقراطية ستتبخر حين لا تجد المرأة أية حرية لنفسها إلا أن تجعل نفسها صورة للموديل المقترح على شاشات التلفزيون أو لوحات الإعلان.

اقرأ/ي أيضًا: في الأردن.. القانون في خندق المغتصب

لا شك أن المرأة العربية تعاني بدورها ما تعانيه المرأة في الغرب، بل تأخذ معاناتها أبعادًا أشدّ درامية حين تتكثف الدعايات من حولها لكونها تعيش في بلاد يراها الغرب سوقًا لتصريف المنتجات والحماقات، وفوق هذا تأتيها معاناة أشد وطأة تبدو في صراعها مع الدين، لكنها في الحقيقة هي صراع مع يستعملون الدين ضدهن.

أتشاجر مع صديقاتي في حوارتنا حول واقع النساء والنضال النسوي، حيث تصر الصديقات المتحمسات على أن مشكلة المشاكل الوجودية هي الصراع مع العقل الذكوري وتجلياته. هذا الحق يتحول إلى مأزق للحركة النسوية في كل مكان، حين ترى العالم مصروفًا فقط في صراع بين الرجال والنساء. كذلك ليس صراع العالم بين البيض والسود كما تقول الحركة السوداء، ولا صراع مستعمَرين ومستعمِرين كما تقول حركات التحرر، ولا صراع فقراء وأغنياء كما تقول الشيوعية.. مصيبة عالمنا هي اعتبار واحدة من هذه المصائب فقط هي المصيبة الكبى ونسيان ما عداها، فترابط هذه المصائب مع بعضها البعض، هو ما يجعلها صخورًا متدحرجة على جثة الحياة الإنسانية.

النظام الرأسمالي الذي يتحدث عن العدالة والحرية طوال الوقت، وتحقيق العدالة والحرية نهاية له، هو من يصنع هذه البلاءات كلها. هذا النظام هو من يرسّخ الأفكار القديمة ضد النساء، وفي الوقت نفسه هو من يصنع الحروب ويولّد مآسي اللاجئين، وهو من يحطّ من شأن الفقراء، ويزيدهم فقرًا، ويسد أمامهم كل الآفاق إلى حياة كريمة. وهو من يدعم الاحتلالات المباشرة أو غير المباشرة، وهو من يخلق مافيات المخدرات والسلاح.

الكلمة التي يجب أن تقال اليوم هي أن عدو الحركة النسوية هو عدو الجميع، والنضال النسوي إذا اقتصر على ما هو نسوي فقط، دون ربطه بسياق اضطهاد عالمي، سوف يوصل النساء إلى صنع نماذج مناقضة لأحلامهن، على غرار النسوية الألمانية أليس شفارتسر التي تعادي المسلمين بشكل قميء، لأنّ التركيز على حقوق النساء فقط يعمي عن الحقوق الأخرى، ويتحول مع الوقت إلى نوع عنصرية مقيتة.

اقرأ/ي أيضًا:

السلطة الذكورية على هيئة أغنية ناعمة

اقتل البغدادي وانكح إلهام شاهين