20-يوليو-2017

الموسيقار بليغ حمدي

انتهى الكاتب المصري طلال فيصل، الذي درس الطب النفسي والفلسفة، من روايته الجديدة "بليغ" (دار الشروق، القاهرة 2017) التي يحاول فيها أن يوثّق فيها حياة الملحن المصري بليغ حمدي ، وذلك على حد قوله "عن طريق شهادات بعض مرافقيه، والاعتماد على الأحاديث الصحفية واللقاءات التلفزيونية التي صورت معه، والتي يركّز فيها على قصة حبّه الشهيرة مع المطرية الجزائرية وردة، كما يحاول دمج قصة حبّه الشخصية معها".

توثق رواية "بليغ" لطلال فيصل حياة الموسيقار بليغ حمدي

تدور أحداث رواية بليغ بحسب المؤلف "حول ثلاثة خطوط متوازية، أولها سيرة موسيقار موهوب أدرك سر الحياة والنعمة الجديدة الجميلة وسحر النساء فابتهج ونشر ذلك في ألحانه، وثانيها حدوتة فتى غّر غادر بلاده، هربًا أو عشقًا أو كليهما، فانتهى مكلبشًا في مصحة بفرنسا، وثالثها سيرة الهرب من الهوس والحزن بمطاردة النغمة الحائرة، ومحاولة تحليلها في صحبة موسيقار غير موهوب، يدّعي الكاتب إنه "لا قيمة فعلية له بالرواية".

اقرأ/ي أيضًا: 5 روائيين يجيبون عن سؤال: كيف تكتب رواية؟

ربما كانت هذه الكلمات هي أوّل "تحايل" لكاتب الرواية، وعلى ما يبدو أن الحكاية لم تكن أبدًا تسير في ثلاثة خطوط، لكنه خط واحد ممتد يتصل بين المؤلف طلال فيصل والبطل الذي يعطيه نفس الاسم بوضوح دون أي رمزية "طلال فيصل"؛ خط ممتد بالحيرة والتمرد على القدر والتمنّي؛ حيرة صاحبت قصة حبه، وسعيه لمعرفة جدوى ثورته وسعيه الذي لا ينتهي، وتمرد على ما أوجده من البداية في ذلك المكان (أسرة ودولة)، وتمنّي بتحقيق كل ما يدور في خياله الذي رافقة على طول رحلته، كمصدر رزقه ومصدر حزنه. لذلك فعلى ما يبدو، إنك تحجز دورك في القراءة عن طلال نفسه، عن حياته الذي يحاول "بثقها" على الجمهور، فلا يخدعك الحديث عن بليغ ولا عن مشواره، إلا كعنصر مساعد للتعاطف مع الولد الغرّ (الكاتب).

لم يلتزم المؤلف طلال فيصل بدوره الذي ينبغي لعبه باعتباره ساردًا للرواية، وحاول الحصول على صفحات أكثر لحكايته، نازع خلالها البطل الرئيسي للرواية (بليغ حمدي) مكانه، إلا أن ذلك لم يمثل الأزمة الأساسية بقدر ما تمثلها إشكالية تماسك الصياغة والحبكة الروائية الجذابة في عرض المؤلف للبطل الأساسي للرواية طلال فيصل بالتوازي مع ضعف حبكته واستسهال عرضه لمن حملت الرواية اسمه "بليغ". بل إن هناك فقرات بعينها في بداية الرواية يستخدمها الكاتب في الحديث عن قصة حبه، تجدها مرة أخرى في الوثائق التي كتبها بليغ حمدي عن نفسه، والتي يعرضها الكاتب نصًا في نهاية الرواية بدون أي تدخل.    

لا تخلو صفحات الرواية على طولها من مقاطع بعض الأغاني التي قام بليغ حمدي بتلحينها، ولا بعض الآيات القرآنية التي تأخذ صياغة مختلفة عن نصها الأصلي فيما يعرف دينيًا بالتضمين، الأمر الذي لا يشعرك بأي ملل أثناء القراءة، وكأن الكاتب يضع لنفسه غطاء موسيقيًا وجماليًا للاستمتاع والتعايش، كما أنه لا يشرّح حياة "بليغ" بقدر ما يحاول التأكيد على فرضيته من خلال الملحن؛ حيث يمكننا أن نحاول ربط تأكيده المتكرر على موهبة بليغ منذ صغره باعتبارها صورة غير مباشرة للالتفات إلى موهبة الشاب نفسه "طلال".

[[{"fid":"80736","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":287,"width":200,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

يربط الكاتب بداية الملحن الذي يكتب عنه، وتعلقه بلحن "يا أبو العيون السود" لمحمد عبد المطلب، وأن ذلك اللحن هو ما جعله يقرر أن يصبح ملحن، في حين إن أول ما لحنّه بليغ بالفعل كانت أغنية العيون السود لحبيبته وردة. الصدفة هي التي أدخلت الكاتب لعالم الترجمة والتأليف، ربما هي نفس الصدفة التي أوجدت بليغ كملحن، باعتبار أن كل الخطوات المصيرية في حياة الكاتب أو بليغ كانت مرتجلة وعشوائية مثل "ضربات البلياردو من شخص غير محترف" على حد قوله.

يحكي الكاتب قصته الشخصية من البداية للنهاية، ينتهي من تفصيلة له فيدمجها بأخرى لبليغ. لكن ربما تشعر في كل كلمات الكاتب ثمة تنصل وسخرية بل لا مبالاة من حياته ونشأته بالتساوي تمامًا مع الحزن الشديد على فشل قصة حبه مع حبيبته "مارييل الفرنسية"، يبوح بأشياء "إن تبد لكم تسؤكم" ويستطرد عن أسباب فشل قصته بوضوح وصدق شديدين، لعلنا ندرك معه إن هناك أشياء يمكن للمرء الحديث عنها بهذا الوضوح حين يشعر إنه يحكيها لآخر، وليس بينه وبين نفسه، فقد لا يستطيع عرضها وتفصيلها بذلك الوضح.

بعد روايات عن نجيب سرور وبليغ حمدي، يستعد الكاتب طلال فيصل لكتابة رواية عن سيد قطب

أثناء تواصل "ألترا صوت" مع الكاتب عرفنا أنه يستعد لكتابه الجديد الذي يسرد فيه قصة المفكر الإسلامي سيد قطب، كما لاحظنا تركيز قراءاته التي يشاركها عبر مواقع التواصل الإجتماعي على موضوعات ربما جميعها تظهر في شكل قصص وسير ذاتية لأشخاص مختلفة، ربما يكون الكاتب طلال فيصل غارقًا في الحديث عن السيّر الذاتية للأشخاص تنفيسًا عن حيوات كانت يتمنى أن يعيشها بديلًا لهؤلاء الذين يكتب عنهم، فروايته السابقة التي كتبها عن حياة الشاعر نجيب سرور، والتي حاز عنها  "جائزة  ساويرس" 2015 كانت سيرة ذاتية أيضًا كما هو واضح. ففي  حين كتب أحد القراء منتقدًا شخص طلال فيصل في الرواية قال بوضوح "إن الكاتب أقحم شخصية طلال داخل الرواية بدون وجه حق"، وربما بذلك يحمل جزءًا من الحقيقة، أو الحقيقة كاملة.

اقرأ/ي أيضًا: "آخذك وأحملك بعيدًا"..رواية عن بؤساء إيطاليا

يصف طلال فيصل نفسه بأنه "عدمي منخلع من كل شيء، لا يؤمن بوجود الله غير العادل"، وهو ما تكشفه سطور سرده عن نفسه، هي رمزية واضحة كان يتمنى بها المؤلف نفس حياة بليغ لكن على ما يبدو غير صحيحة لشخص يحمل كل هذا العناء والحزن والصدق الشديد، والأهم من كل ذلك كل هذا الحب الذي يكنه للشاعرة الفرنسية، بينما بليغ الذي لا ينفك يفعل كل ما يريد في أي وقت؛ ينسى يوم فرحه مرة، يحب في الليلة ثلاثة مرات، ينام في دولة ويصحو في أخرى، وكل ما يمكن أن يدلل على الحرية التامة التي كان يعيشها بليغ، والتي تمناها المؤلف دون أن يعيشها واقعيًا.

تنتقل الأحداث من فشل قصة المؤلف نفسه طلال مع الشاعرة مارييل الفرنسية، التي تعمل في المركز المصري بالقاهرة والتي تبدأ بالتوازي مع ثورة 25 يناير وما بعدها، ثم تبدأ مرة أخرى بعشق بليغ للمطربة وردة في نهاية الخمسينات، ثم زواجهما وطلاقهما في الثمانينات، ويتوسطها قصة الموسيقي وصديق البطل في الرواية سليمان العطار، بعشقه لفتاة فرنسية أخرى في منتصف الثمانينات،. هذا هو الترتيب الزمني للحكايات، التي يجمع بينها الفشل العاطفي، والتي تركت في قلبهم حاجة للتنفيس عن مشاعر الحب الضائع سواء عن طريق التأليف أو الموسيقى.

قال المؤلف على لسان بليغ حمدي: "إن فكرة الطرب وجوهرها هي توقف الزمن، أن الزمن لا يهم، أن الحياة السعيدة هي الفراغ السعيد، هي القعود على هامش هذا الزمن الذي لا يتوقف"، وهو ما يؤمن به طلال فيصل جيدًا، ربما يأتي هذا العيش على جانب الزمن في رفض جزء كبير منه ومما انتهى إليه الحال عمومًا. وهو ما فعله طلال معظم الوقت.

على ما يبدو إنه قصد نقل كلمات بعينها من قصة حياة أو حب بليغ حمدي إلى قصة حياته وحبّه الشخصية، من بداية الجمع البشري الذي وقف ليشاهد "الصنارة" المصرية التي غمزت، وها هي تصطاد وردة في حالة بليغ، هي نفسها "الصنارة" التي وصف بها بليغ حمدي لقاءه بالفرنسية في حالة طلال فيصل، نفس المشهد الذي يؤكد نفس البداية، وربما لأنها تذهب إلى نفس النهاية، الحب ذاته والطريقة ذاتها والنهاية واحدة، لا مفر. أيضًا شكوك بليغ حمدي من أجل طموح وردة وليس حبّه، هو الذي "لا يستطيع أن أبقى وحدي نصف ساعة على بعضها"، بينما شكوك طلال من الفرنسية التي تستخدمه هي الأخرى لتنسى زوجها القديم الذي لا تزال تحبه.

فكرة الطرب وجوهرها هي توقف الزمن، أي أن الزمن لا يهم، وأن الحياة السعيدة هي الفراغ السعيد

ربما إذا كان هناك ثمة مشاركة بين الكاتب والملحن الذي يوثق حياته، فهي لا تخرج عن الفشل والصدق الذي لازم قصة حبهما بنفس القدر، كما يقول في آخر كلماته "إن هي إلّا حكاية واحدة تتكرر منذ بدء الخلق، تنويعات على لحن واحد يبدأ عاليًا ثم يبوخ... إن ما حدث لي ولك مجرد عرض لمشكلة أصيلة وكامنة فينا، ربما نكون قد أحببنا بطريقة ليس في وسع امرأة تحمّلها، وربما تم استغلالنا، بقصد أو بدون قصد، غير أن العلة والاستعداد لكل ذلك كانت موجودة فينا قبل أي شيء، وكل ما حدث هو مجرد إشارة إلى هذا الاستعداد".

اقرأ/ي أيضًا: لبيدرو مايرال.. في مديح النقصان

ربما لن يستطع طلال فيصل أن يضع نفسه في سياق رواياته القادمة بهذه المباشرة والوضوح، لذلك يمكننا أن نعتبر كشفه الصادق لقصته من بدايتها حتى النهاية شيئًا استثنائيًا تمامًا، لا يمكن أن يكشفه بليغ حمدي مرة أخرى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

طالب إبراهيم.. العبور إلى متاهة اللجوء

"ترحال"..سيناء كما يرويها نيكوس كازانتزاكيس