04-يونيو-2017

الكاتب الإيطالي نيكولو أمانيتي

جاء عنوان رواية الكاتب الإيطالي نيكولو أمانيتي "آخذك وأحملك بعيدًا" (ترجمة معاوية عبد المجيد، دار مسكلياني 2016) من آخر عبارة في الرواية، وهي الجملة الأخيرة في رسالة السجين القاصر موروني إلى صديقته جلوريا، معتذرًا عن وعدٍ كان قد قطعه عليها بأن يلتقيها بعد ثلاثة أسابيع، إلاّ أن الشرطة كانت قد باغتته وأخذته إلى سجن القاصرين لستة أعوام. موروني كتب: "جهزي نفسكِ. فحين أمرّ ببولونيا، سآخذك وأحملك بعيدًا".

"آكلي لحوم البشر" جماعة أدبية غيّرت الشكل الروائي الإيطالي عبر مجموعة من الكتاب الواقعيين

لخّص نيكولو أمانيتي من خلال تلك الجملة حاجة سكان قرية إيسكيانو سكالو (إحدى بلدات إيطاليا الصغيرة، يدور فيها جزء كبير من أحداث الرواية) جميعًا عمن يحملهم ويأخذهم بعيدًا، بعيدًا بكل ما في هذه الكلمة من معنى، عن أنفسهم، وعن حياتهم، وعن بؤس اجتماعي مشترك.

اقرأ/ي أيضًا: باتريك زوسكيند.. قصة مشّاء

بحساسية "آكلي لحوم البشر"، هذه الجماعة الأدبية التي غيّرت الشكل الروائي الإيطالي عبر مجموعة من الكتاب الواقعيين، قفزت عنه وتفردت لنفسها بشكل الكتابة الإيطالية الجديدة، التي ينتمي إليها نيكولو أمانيتي ورواياته المترجم للعربية منها "أنا لا أخاف"، و"أنا وأنت"، و"آخذك وأحملك بعيدًا". 

بنسيجٍ من تلك الحساسية ينزع نيكولو أمانيتي الغطاء عن مجتمعه، ليكشف ذلك العمق الخفي منه فيتورط بالكتابة عما تحت القشرة، عن الأسرار التي يكاد لا يبوح بها أحد الأبطال أمام نفسه. يشكل سرده الروائي على جسد مجتمعٍ يأكل بعضه، بعنفٍ يصا إلى درجة الموت، وهو متأكلٌ في الوقت نفسه. من خلال حساسية آكلي لحوم البشر تلك التي تعيد إنتاج الواقعية القذرة، في سيرة أولاد إيطاليا المحروقين، كما أسماها نصر سامي في مقدمة الطبعة المترجمة إلى العربية. 

بطلا رواية "آخذك وأحملك بعيدًا" هما عازف الغيتار جراتزيانو بيليا الأربعيني الذي من الصعب ألّا تفتن به امرأة، وجراتزيانو الذي يخلق لهنّ الوله والرغبة كما يخلق النغمات الموسيقية على غيتاره، ولكنه فشل في خلق فرصة حقيقية واحدة لحياته، هو الغجري العشوائي والمتبجح، ورجل الجبسي المتعطش للتجارب المثيرة التي لا تنتهي قبل أن تقسم ظهره، فيعود مرة أخرى إليها.

البطل الثاني هو الطفل بييترو موروني 12 عامًا، يعاني من فرط في كل شيء، في الرغبات والمطالب، وحتى في الحساسية والحلم. لا تخلو حياته من منعطفات مؤثرة رغم عمره الصغير، كل ما يتمناه ألاّ يكون فلاحًا كأبيه. 

على النقيض من بعضهما البعض، تشكل تجاربهما وزلاتهما عالم الرواية السري والمفضوح في آن معًا، كما أنهما يقفان على طرفي خيط زمني يمتد على طول سبعة أشهر تصاغ فيها أحداث الرواية. فبين حدث رسوب بييترو موروني في البداية، وهو الحدث الذي جرى معه خيط الأحداث الثقيلة والمفاجئة، حتى العودة إليه في آخر الرواية، من خلال رسالة فيها من الأمل ما فيها من الخيبة، بعد اجتياز تجارب يضطر الأطفال لتجريبها وإلاّ لن يكبروا في إيطاليا بشكلٍ سليم. 

تركت تجربة القتل في قلب موروني أثرًا بغيضًا تختنق معها أنفاسه، رغم اجتيازه لمرحلة العقاب بأقل المخاطر، فبييترو يحلم بالحياة والحظوظ والحب، والتي كانت ذاتها دوافع القتل. كما أنه لم يقتل بشكل مباشر، فهو ترك الآنسة بالمييري تموت في الحمام دون إنقاذها، عندما تسلل إلى بيتها عشية نتائج المدرسة ليضع ثعبانًا في فراشها كانتقام على ترسيبه. 

الآنسة بالمييري التي لا خبرة لها بالعلاقات الغرامية، وقعت فريسة جراتزيانو الذي ذهب يتودد لها بعد أن تركته إريكا عشيقته المهووسة بالتلفزيون والعمل مع المنتجين الذي يستغلونها مقابل وعود الشهرة الكاذبة، كما أن الممثلة والعارضة الهاوية إريكا لم تتعلم من تلك الأكاذيب، وجراتزيانو لم يتعلم أن يكف عن ملاحقتها، فبعد أن أخبر المدينة بأكملها بأن سيتزوجها، يشاهد في إحدى الليالي حبيبته على التلفاز مع رجل آخر في عرضٍ رخيص. جعل من جراتزيانو مجنونًا يبحث عن انتقام، وأول من يصادفه الآنسة بالمييري. فتستسلم الأخيرة لحبه العاصف، إلاّ أن عازف الغيتار غجري الطباع يرحل عنها دون مبررات للغياب، يتزوج من إريكا التي تابت عن الشهرة بينما بالمييري تبقى بانتظاره مع جنين صغير في بطنها.

ولكن هؤلاء حمقى لا يتعلمون، فمن جديد ترحل إريكا إلى التلفزيون، ويعود جراتزيانو إلى بلدته مقررًا الاتجاه فورًا للاعتذار من بالمييري على تركها من قبل، ليبدأ معها من جديد. ولكن هذه المرة على الحكاية أن تنتهي وعلى الجميع أن يفهم. إلى جانب هذا الانتظار المضني، تأتي حادثة الرسوب تلك، يرى بييترو موروني اسمه باللون الأحمر، بينما أسماء الجميع مكتوبة بالأزرق، من غير الممكن أن يحدث ذلك فقد وعدته المعلمة بالمييري بأنه سينجح هذا العام فمشكلته قد حلت. لتصل بهم جميعًا حادثة الانتظار والرسوب تلك لارتكاب جريمة قتل. 

تعتبر الآنسة بالمييري، ببساطتها وغموضها وانغلاقها، عتبة هامة في حياة جراتزيانو بعد أن قرّر العودة لها، ليجدها جثة هامدة محمولة إلى المشفى. بينما الآنسة نفسها بالنسبة لموروني حادثة أوصلته إلى النضج ومعرفة النفس بمقدار ما زرعت في قلبه المرارة.

مرّت رواية "آخذك وأحملك بعيدًا" بالبطلين إلى الضفة الأخرى من العالم، لكن بأثمانٍ باهظة. بين عالم الصغار ببراءته وحماسته وعالم الكبار الذي فقد البراءة والحماسة، يبني أمانيتي عالمه الذي يحارب به الشرور التي تنمو في دواخلنا وتحولنا إلى وحوش، فرغم كراهية الآخرين استطاع كلٌّ من البطلين المرور عبر المفاجآت والمتاعب إلى اتصالٍ عميقٍ مع الواقع والنفس ورغباتها. 

في "آخذك وأحملك بعيدًا"، يتحرك البؤس مع الشخصيات في نسق من المغامرات والحب والخيانة

فعليًا تقف مفاصل رواية "آخذك وأحملك بعيدًا" على حوادث صادمة مبنية على دوافع شفافة وهي الحياة الأفضل، أو الحياة كما ينبغي لشخص أن يعيشها. كحلقة تاريخية من عمر الزمان والمكان والأشخاص، نطلع فيها على الجذور القذرة صعودًا باتجاه السطوح اللامعة. تنبش رحلة العمق هذه مآسي قرية إيسكيانو رغم صغرها وهدوئها إلاّ أنها صورة مصغرة عن مكان مكبوت ومنفلت، في عصر نهايات متروك دون بدائل جاهزة كما وصفه أمانيتي. تجتاح الجميع نزعات فردية متوحشة غير مدنية وكأن التاريخ بالنسبة لهم يلف على نفسه وعلى قريتهم أكثر باتجاه الداخل، فلا نتائج للأفعال إلاّ كارثية ولا مخططات إلاّ نحو الإيقاع بالأضعف والأقل خبرة. 

اقرأ/ي أيضًا: مقدمة رواية "العميل السري"

في لغة فجة ثقيلة ودقيقة لاشيء يمنع من أن يقول الجميع كل ما يخطر لهم، فتخرج اللغة من ألسنة قذرة وعيون لا ترى وتلاحظ إلاّ الفجاجة فتعبر عنها بكل صراحة وبشكلها الحر. ومن هنا يمكن أن تبنى النقاط المشتركة بين شخصيات موتورة متشددة تحكمها الشهوات وصناعة الأذى، في سلوكيات مخيفة وخطيرة. 

يعبر عنها أحيانًا صوت الكاتب نيكولو أمانيتي الحاضر في روايته، يرشدك إلى حياة أبطاله المهزوزة وينتقل بك من شخصية إلى أخرى. يحلل الوقائع بعيون من يراها، فلا تمر حادثة معينة كتخطيط الأولاد للإيقاع بأحدهم أو محاولة سرقة أو قتل إلاّ ونراه بعيون الجميع المتضررين والقائمين على الضرر. في رواية "آخذك وأحملك بعيدًا" نظرة بانورامية مقربة ومتفحصة للكثير من التفاصيل الحية بين الجميع. في إيسكيانو سكالو تلك البلدة الجميلة ولكن كل ما فيها بشع وانتهازي ومحطم. 

يتحرك في الرواية البؤس مع الشخصيات في نسق طويل عبر المغامرات وعلاقات الحب والخيانة، كما ويحاصر ذلك البؤس أحلام وطموح الصغار في مكان يشبه العزلة بالنسبة لهم، ما يدفعهم لاحتراف الأذى والكره بديلًا عن البراءة. 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

زينة هاشم بيك.. الإرهاب الجميل للشعر

"عن الحب والموت".. باتريك زوسكيند في مطبخ الشيطان