03-فبراير-2017

غرفة المطر في صالة "راندوم إنترناشيونال"

نوافذ الليل المشرعة عادة على النميمة تسرّب الماء. متى لاحظت ذلك؟ لا أذكر. ورغم كل محاولاتي المستميتة لإصلاح الخلل بقيت أفشل كل مرة، وكل مرة ظل الأمر يتفاقم.

في البداية ظننت، كما يظن كل الناس في البدايات، أنه أمر عابر. هادنت غيابك، أوصدت النوافذ وزهدت في أخبار علاقاتك رغم الفضول الذي بالفعل قضم قليلًا من كتفي. بقيت الحكايات مبتورة ومطوية على احتمالاتها. لك أن تتخيل حجم بؤسي بعد أن كان آخر ما مر من نافذتي حبيبة جديدة جاوزت الامتلاء إلى السمنة، ومقولات غير مؤكدة عن وشم أسفل ظهرها، وميل فطري للمستحضرات الرخيصة. ثم ماذا؟ لا شيء. والماء؟ لم يتوقف.

لجأت إلى أكثر الحلول بدائية، صففت ما لدي من أوان معدنية وبلاستيكية تحت النوافذ. راقبتها تمتلئ وتطفح. راقبتها تصير سماوات، كل آنية منها سماء تغص بآلاف العيون، تراقبني، تشم رائحة الخوف وتوثق الذنوب. "الماء طهور" سمعت جارنا الشيخ يقول. الماء ينضح حولي، والذنوب؟ لا شيء، جل ما تفعله تكسب الماء لونًا رماديًا خفيفًا.

مزقت قمصانك وفانيلاتك الداخلية، مزقت أشرطة التسجيل ودفاتر حساباتك، وحشوت الحواف. رشح الماء مثقلًا بالذكريات والعرق، صار الوضع لا يُطاق. حتى صوت وردة سال هو الآخر باهتًا كأنما يجيء من قاع علوي "يا حب مين يشتري، ومين يقول عايز، زمن الأحبة انقضى، وكل شيء جايز".

اتصلت بالسمكري، شرحت له خطورة الموقف، بالغت قليلًا، قلت إن الماء وصل قلبي، وإن البلل يهدده بعفونة مبكرة. بدا مستعجلًا، قال كلامًا مختصرًا عن انشغاله بمشاريع حكومية، وإن أعمالًا فردية كحالتي ليست مجدية ومردودها شحيح. قال إن علي بدلًا من الشكوى أن أشكر الطبيعة الرحيمة التي منت عليّ بنعمة حرمت منها ثلاثة أرباع المعمورة، وأنها ربما تكون طريقة الطبيعة في التحايل على رقعة جفاف تتسع في قلبي المذكور. هل عليّ أن أفترض أن السمكري لا يؤمن بالله؟ فخلال دقيقة وخمس وعشرين ثانية ذكر الطبيعة مرتين، ثم أقفل السماعة، وظل الماء في الخلفية يقهقه.

البارحة يئست، لم يبق في يدي حيلة فخضعت أخيرًا وفاوضت النوافذ. لم نتوصل لاتفاق، ثلاث ساعات مضنية من الأخذ والعطاء، وفتح الدفاتر القديمة والعتب المتبادل وسيل من الشتائم، وصلنا إلى طريق مسدود. طرحت شروطًا، كانت مجحفة. طرحت بدائل، كانت مهينة. صار التعنت سيد الموقف. رفضت. أغلقت الأبواب، وكنت الطرف الأضعف على كل حال. 

تأزم الموقف، واتخذت مجريات الأمور منحنىً خطيرًا؛ صار الماء يتخذ كل وجوه الفقد الممكنة، كل تحولات اللوعة، كل تشكلات الغياب. صار قاتلًا. 

إنني أُجن! تسلق الماء وجنتي، صار دمعًا. لماذا يا الله؟ إنني أُجن. غفوت كي أتجنب الغرق وحين صحوت لم أستطع النهوض، كانت جذوري ضاربة في البلاط، وبضع براعم صغيرة كانت قد نبتت في خاصرتي. قلبي طعمه أخضر. كنت أشعر بالعطش وكان الماء قد اختفى. 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

كلانا تربّى على الرحيلِ

تعويذة لكتبي المسروقة