02-فبراير-2017

(Getty) نساء في دمشق

مدخل

يقول هنري ميلر: "إن أوّل شيء أربطه بقراءة الكتب هو الصّراع الذي خضته من أجل الحصول عليها".

كنتُ تلميذًا داخليًا في متوسطة الشّهيد محمد بلغربي بمدينة برج بوعريريج، ألتحق بها صبيحة يوم السّبت، وأغادرها إلى القرية عشية يوم الخميس. كان ذلك مواكبًا لبدايات انطلاق آلة الإرهاب في حصد الأمان والأرواح مطلع تسعينيات القرن العشرين في الجزائر، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن علاقتي بالغرق في الكتب قد بدأت قبل هذا التاريخ بسنواتٍ قليلة. لقد فَرضتْ عليّ عبارة الغرق في الكتب نفسَها، لأنها ترى نفسها الأولى من بين العبارات الأخرى بالتعبير عن حالتي وأنا أمسك كتابًا في الحافلة وفي سيارة الأجرة وفي البيت وفي الدّاخلية، حتى أنني قرأت كتبًا كثيرة في مرحاض المرقد ليلًا، بعد أن ينام التلاميذ الداخليون وجوبًا بأمر من الحارس الصّارم. أليست تجربة مثيرة أن نكتب عن الكتب التي قرأناها في المراحيض؟

لقد ورثتُ هذه العادة عن تلك المرحلة، وما زلت إلى غاية اليوم أمارسها بمتعة عميقة، رغم اعتراض أمّي في كلّ مرّة: "لا تُدخلْ كتاب الله إلى بيت الرّاحة.. حرام عليك". إنها تعتقد أن كل كتابٍ هو كتاب الله، وقد تهاوشت مرّةً مع جدّتي التي عَرَضَتْ عليها أن تحلف على كتاب الله، فأخرجتْ من محفظتي كتاب الرّياضيات، وراحت تقسم عليه. قالت لي يومًا، وقد اعترفتُ لها بأنني سرقتُ كتابًا من مكتبة المتوسطة: يا ولدي.. أعد لله كتابَه، هل هناك عاقل يسرق ربَّه؟ 

"خالتي سعدية
يا خالتي سعدية
ويقتاش تخلصيني في البرية؟".
أغنية يسأل كاتبُها خالته سعدية عن اليوم الذي تدفع له فيه أجرة أنه كتب لها رسالة إلى غائب ما، وأنا احتلتُ على خالتي سعدية المسكينة. من المسكين الحقيقي منّا يا ترى؟ لقد جاءت إلى بيتنا ذات خميس، وقد عدتُ من المتوسطة، فقالت لي إنها سمعتْ أن هناك شيخًا في المدينة التي أطلب فيها العلم، يكتب أحجبةً تجمّد الماء، وإنها مستعدة لأن تبيع نعجتها مقابل أن يكتب لها تعويذة تجعل زوج ابنتها يحبها من جديد، فقد بات لا يُشاركها الطعامَ والمنامَ والمقامَ، وهو ينوي أن يتزوّج عليها.

عدت في الأسبوع الموالي، فوجدتها قد باعت النعجة، وتركت لي مبلغًا سمينًا عند أمّي، كان أكبرَ مبلغ يقع في يدي. أقول يدي الأمينة في تلك اللحظة، أما بعدها بيومين، فلم تعد كذلك، ذلك أنني دخلتُ المدينة بنيّة أن أذهب إلى الفقيه فعلًا، وأسرد عليه حكاية المغبونة ليكتب لها حرزًا، لكن ما إن دخلت السّوقَ، ووجدت بائع الكتب القديمة حتى عَدلْتُ عن الفكرة.

في البداية، قلت إنني سأشتري كتبًا ببعض المبلغ، وأترك بعضه أجرةً لحرز الفقيه، ثم تخلّيتُ عن الفكرة تمامًا، وصرفته كلَّه على الكتب. ليتكِ أعطيتِني ثمن النعجة كله يا خالتي سعدية، لكن ما فات حال، سأقول لك حين أعود إن الفقيه طلب مبلغًا إضافيًا حتى يكتب الحرز النافع، وهذا الذي كان. عدت إلى البيت، فوجدتها تنتظرني غارقة في لهفةٍ لا تتفوق عليها إلا لهفتي، وأنا أشرع في كتاب من جملة الكتب التي اشتريت.

أذكر أنني اشتريت كتاب "ألف ليلة وليلة"، كنت قد قرأته من قبل في جامع القرية، هذا الكتاب حفر في ذاتي حفرًا لم تحفره إلا كتب قليلة، إذ ليس هناك خلفية لحبّي السّافر للسّفر تسبق خلفية تأثري بالسّندباد البحري، واشتريت كتاب "الأيّام" لطه حسين، وقد كان سببًا في أنني أحببت هذا العبقري، فقرأت كتبه كلها فيما بعد، واشتريت رواية "الزلزال" للطاهر وطار، كم ضحك عمّي الطاهر حين قلت له، بعد أن أصبحنا صديقين في الجزائر العاصمة إنني قرأته أول مرة بتلك الطريقة، واشتريت ديوان عبد الله بن قيس الرّقيّات.. الشاعر الأموي الرقيق الذي ساهم في أنني تجاوزتُ عقدة عدم فهم الشّعر الجاهلي، وقد سُمّي بالرّقيّات لأن النساء اللواتي أحبهن، وكتب عنهن كن جميعًا يحملن اسم رقية.

واشتريتُ رواية "الحلزون العنيد" لرشيد بوجدرة، لست أدري لماذا لم أحْكِ له بعد أن أصبحنا صديقين أنه حرّرني بتلك الرّواية من عقدة الخوف من الفئران، التي ورثتُها من عضّة فأرٍ حصلتْ لي في طفولتي المبكرة. لماذا لا نكتب عن الكتب التي حرّرتنا من عقدة معيّنة؟

وجدت خالتي سعدية تنتظرني في البيت، متلهفة للقائي أكثر من أمي، وكم كانت خيبتها سمينةً حين قلتُ لها إنني لم أجلبْ لها الحرز، لأن الفقيه طلب مبلغًا إضافيًا، فتسرّبتْ إلى حوشها مثل حمامةٍ منتوفةٍ من غير أن تعلّق، أو تعطيَ انطباعًا بأنها ستعود، لكنني كنت أثق في عودتها، وهذا الذي حصل، لقد عادت بالمبلغ الإضافي.

مخرج

كان لابد أن أحضر الحجاب في النهاية، وإلا وقعت في الحرج الذي سيُحرج أمّي التي كانت الشاهدة، ولم يكن أمامي إلا حلّ واحد، هو أن أتولّى كتابته بنفسي، على أنه من فقيه المدينة. وما أثار اندهاشي، ودفع الخالة سعدية إلى أن تعطيني مبلغًا ثالثًا مقابل "أتعابي"، هو أن زوج ابنتها عاد إليها سمنًا على عسل. 

اقرأ/ي أيضًا: 

كأنّ شيئًا ما لن يحدثَ بعد الغياب

تسافرُ المياهُ في المياه