20-سبتمبر-2019

أمارجي ومجموعته (ألترا صوت)

تذهبُ مجموعة أمارجي الأخيرة "بفمٍ مليءٍ بالبرق" (دار التكوين 2019) إلى شعريّة الشذرة وتكثيف اللحظة القائمة. إذ إنّ الشاعر لا يقوم بمرحلة التوليف ما بعد الكتابة على غرار العديد من الشعراء، بل يقتنص الصورة أو الفكرة ويكتبها كما هي.

يقال إنّ الجملة الأولى من كلّ قصيدةٍ هي من صنع الآلهة بينما الباقي فهو ما يكمّله الإنسان

يقال إنّ الجملة الأولى من كلّ قصيدةٍ هي من صنع الآلهة بينما الباقي فهو ما يكمّله الإنسان. يبدو أن هذه هي رغبة الشاعر هنا ترك النص كما هو من دون تحوير أو زيادةٍ أو نقصان.

اقرأ/ي أيضًا: منذر مصري وشركاه.. هكذا احتال الشعر علينا!

تنقسم المجموعة الممتدّة على 116 صفحة من القطع الوسط إلى قسمين: أفقيًا، وهو بدوره يحوي حوالي 200 شذرة قصيرة، وعموديًا حيث يحوي 75 قصيدة صغيرة أقرب للومضات الشعرية. أيضًا هو اختلافٌ من حيث التقسيم بحيث اعتمد أمارجي على شكل النص لتوزيعه لا على مضمونه شأن معظم المجاميع الشعرية اليوم.

يقول وليد السويركي، في مقدّمة ترجمته لكتاب "أصوات" (تأليف انطونيو بورشيا) إن شذراته قد تكون كلّ شيءٍ إلّا أنّها ليست حكمًا. ولئن أردنا البحث في جوهر الشعر اليوم سنجد أنّ الشعرية لا تحمل صفة الوعظ والحكمة في لغتها بقدر ما هي تأملات خاصة بالكاتب، من الممكن أن يتشاركه فيها القارئ ومن الممكن لا. وهذه هي الغاية الأساسيّة في شذرات أمارجي في القسم الأول من الكتاب التي لا تنفكّ عن هذه القاعدة أبداً، فمثلاً حين يقول: "الخريف طريقة الشجرة في إلقاء قصيدتها". ليس بالضرورة أن يجمع الجميع على ذلك ولكن من الممكن لقارئ ما تبنّيها.

بيد أن القسم الثاني من الكتاب يختلف عن القسم الأول من حيث أنّه أقرب للكتابة الالتقاطية التي تجري على قدمٍ وساقٍ، بناءاً على صورٍ صادمةٍ يختلقها أمارجي وتضفي جماليةً جديدةً على الشعريّة العربية. مثال على ذلك: "هناك نافذتان/ يتكثَّف على زجاجهما البخار الحار/ لأنفاسِ كلِّ الكائنات المحتضرة، نافذتان اثنتان أراهما/ كلَّما نظرت إلى عيني في مرآة". ولعلّ مردّ ذلك هو تأثّر الشاعر والمترجم السوري بالثقافة الإيطالية التي يترجمُ عن لغتها ويعيش في بلادها، وهي بلاد القديسين والشعراء. كما أنّ المثير للانتباه في هذا القسم من الكتاب هو عدم وضع الشاعر عناوين للقصائد، بذلك يكون قد حرّرها تمامًا من كلّ وطأةٍ وثقلٍ عليها.

لا ثيمة محدّدة للنصوص بشقّي الكتاب، بل يحوي كل ما أمكن حمله، وإن لوحظ طغيان علاقة الشاعر بالطبيعة حوله، فتحضر الأزهار (الخشخاش، التوليب، الغاردينيا، الفاوانية....)، والأشجار (الصفصاف، الحور، الزعرور، السرو...) والحيوانات (القطط، الفراشات، الضفدع، القنبر...)، والأنهار والسماء والحقول.. كل هذا يستحضرُ في الكتاب تصويرًا تامًا وكأنّ الشاعر يحمل بيده كاميرا ورقية يدون فيها مشهدًا مقنوصًا من عدة مشاهد تدوّن واحدةً تلو الأخرى، مثال على ذلك: "هل تنظرُ السماءُ في الليل/ إلى بآبئ عيون القطط/ كما ننظرُ نحنُ إلى النجوم". ويبدو ذلك أقرب إلى الهايكو الياباني بفكرة تأمل الهايكوي في الطبيعة إن لم يطبّق شكليًا مائة بالمائة مع أمارجي من حيث وحدات الصوت الـ 17.

إضافةً لحضور الطبيعة اللافت في النصوص نلحظ أن الشاعر يطلق ما هو أقرب الى الأحكام الخاصة حول الفنون والمعتقدات وغيرها، ففي الشعر مثلًا يقول: "لكي تتبيّن الأصالة الشعرية من زيفها عند أيّ شاعرٍ انظر إلى نثره: النثر فضّاح". وفي الموسيقى ينظر الشاعر للموسيقيين على أنّهم شعراء أيضًا (بيتهوفن، فاغنر، باخ، شوبان، فوسكولو...) وأيضًا في الدين، الفلسفة، الحب.. كلها نظرات خاطفةٌ كتبت كما كتبتها يدٌ للآلهة.

لكي تتبيّن الأصالة الشعرية من زيفها عند أيّ شاعرٍ انظر إلى نثره: النثر فضّاح

من اللافت اختفاء الحال السوري اليوم في هذه المجموعة، ففعليًا يبدو أنّ الشاعر يحاول الهروب من هذا الجحيم عبر الكتابة، وهي أشبه بمقاومة سلبية لما يشغل العالم منذ مدةٍ طويلة، مقاومة بالشعر، فبالشعر تختفي الأزمة بجوهرها الديالكتيكي تنظيرًا والقاسي العنيف مشهديًا، لكن يبقى لها يدٌ تقرعُ حنايا الشاعر، تمامًا حين يقول: "لَكانَ دانتي أعاد النظر في جحيمه لو أنه عاصـر الجحـيم الـسوري. لَكانَ عرف أنَّ لنهر الكراهية، ستيكس، اسمًا آخر أدهى تموهًا، بحـرًا أبيض يتوسط الأرض. لَكانَ ألغى المطهر والفردوس واكتفـى بنـشيد واحد طويلٍ لا نهاية له، من جحيمٍ بلا قرارٍ ولا نهاية ولا درجات".

اقرأ/ي أيضًا: أحمد قطليش.. بانوراما شعر الخارج السوري

يبقى السؤال: ما سرّ انتشار كتابة الشذرة في الآونة الأخيرة؟ ربّما لأنّ الشعرية باتت منذ زمنٍ تسلك سبل التكثيف والإيجاز المقدور عليه، هذه السبل التي طالت وطالت حتى أوصلتنا صوب الشذرة التي تأتي ككتلةٍ ضوئيةٍ تلمع دون أن يعترض فضاؤها غبار.

 

اقرأ/ي أيضًا:

زينة هاشم بيك.. الإرهاب الجميل للشعر

محمد أبو لبن.. صفعة الغريق على وجه الماء