10-أغسطس-2023
تصميم لـ جوانا أندريسون لـ New Lines

تصميم لـ جوانا أندريسون في مجلة نيو لاينز

نشرت منذ أيام مجلة نيو لاينز الأمريكية تقريرًا مطوّلًا عن سر افتتان اليمين المتطرف العالمي، والأمريكي تحديدًا، بسياسات حزب البعث في سوريا عمومًا، وبشار الأسد وخطاباته وقراراته على مدار العقدين الأخيرين خصوصًا. وسلّط التقرير الضوء على عشرات المؤتمرات والمسيرات الشعبية التي نظمتها الحركات اليمينية المتطرفة الكبرى -بعضها قائم على أساس عرقي، والآخر قومي- مثل "فانغارد أمريكا"، بهدف تقديم بشار الأسد كنموذج منتصر يُحتذى به.

المجلة تقول في تقريرها إن هذا العشق الذي يناله الأسد من قبل اليمين المتطرف يرتبط بمجموعة من المفاهيم الشائعة حوله، مثل أنه "القوة الوحيدة التي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية بشكل فعال"، أو أنه "يربط البلاد والمنطقة معًا"، أو "يحمي المسيحيين والأقليات الدينية الأخرى"، إلا أن هناك العديد من المجموعات الأخرى التي تُظهر دعمًا لرئيس النظام السوري لدوافع فاشية، وترى حزب البعث الحاكم نموذجًا في التعامل مع الأقليات وحائط صد في وجه العولمة والإمبريالية الأمريكية.

العشق الذي يناله الأسد من قبل اليمين المتطرف يرتبط بمجموعة من المفاهيم الشائعة، مثل أنه "القوة الوحيدة التي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية بشكل فعال"، أو "يحمي المسيحيين والأقليات الدينية الأخرى"

وقد تكمن نقطة افتتانٍ أخرى لليمين المتطرف الدولي في شيطنة الأسد لخصومه على أنهم "الآخر"، سواء كانوا عملاء أجانب أو إسلاميين إرهابيين متطرفين، لإضفاء الشرعية على تصفيتهم في أعين مؤيديه. إذ لا يخفى على السوريين مصطلح "المندسين" في بدايات عام 2011، والادعاءات بتلقّي مبلغ 500 ليرة سورية (10 دولارات حينها) للخروج في مظاهرة.

في مسيرة لدعم نظام الأسد في سكرامنتو - كاليفورنيا، سُئل أحد الحاضرين، الزعيم الفرنسي اليميني المتطرف سيرج أيوب، عن سبب دعمه للأسد. رد: "طبعًا من واجبنا أن ندعم قضيتهم! سوريا وطن ودولة اشتراكية ذات سيادة وطنية. إنهم يقاتلون من أجل العلمانية ويتعرضون لهجوم أمريكا الإمبريالية والعولمة وخُدّامها السلفيين والمرتزقة القطريين والسعوديين الذين يسعون إلى تدمير الدولة".

على الجانب الآخر من الطيف السياسي الأمريكي، وبالعودة إلى شهر تشرين الأول/أكتوبر من عام 2021، خصصت صحيفة "نيوزويك"، ذات الميول التحريرية اليسارية، غلاف عدد الأسبوع الأول في ذاك الشهر لصورةٍ قريبة لوجه الرئيس السوري، مع مانشيت بالخط العريض يقرأ "لقد عاد!"، وعبارة "في انتصارٍ على الولايات المتحدة، القائد السوري بشار الأسد يستعيد مكانته على الساحة الدولية".

وتستدلّ الصحيفة، في تقريرها المطوّل أيضًا، بشهاداتٍ للمستشارة الرئاسية السورية بثينة شعبان لتبيان "الانخفاض العالمي في قوة الولايات المتحدة" ونفوذها وتأثيرها على العالم، ولوصف الصراع السوري بأنه "انتصار على الغرب وما حاول إثباته للعالم"، في الوقت الذي يسيطر فيه على معظم السوريين هاجس الحصول على تأشيرة في أيّ من دول الغرب، إذ قالت شعبان للصحيفة الأمريكية "الرسالة الأولى التي أثبتتها الحرب على سوريا هي أن كل الدعاية الغربية حول هذه الحرب لا أساس لها من الصحة. الإعلام الغربي صوّر ما حدث في سوريا على أنه انتفاضة ضد رئيس سوريا والحرب على أنها حرب أهلية. التحقق من الواقع يثبت أنه لا يمكن لأي رئيس أن يبقى في السلطة إذا كان شعبه ضده، خاصة وأن الإرهاب كان مدعومًا وممولًا من قبل الكثير من دول العالم".

ذلك أيضًا، يعدّ جزءًا من دعمٍ يناله الأسد من قبل اليساريين المتطرفين، وبعض الاشتراكيين المتعصبين، المعروفين بدعمهم اللامحدود، الاختزالي نظريًا، ليس للأسد وحسب، بل بوتين وكيم يونغ أون وأي قائد آخر "معادٍ للولايات المتحدة"، معقل الرأسمالية العالمية، إذ يعتبرون هؤلاء القادة "مناهضون للإمبريالية" على الرغم من أن ذلك قد يكون كذبًا صارخًا في بعض الحالات. ففي النهاية، المنطق المعتمد لدى هذه النماذج يقول إن "X إمبريالي، وY لديه مواقف معادية لـ X، لذا فإن Y معاد للإمبريالية"، وهو تبسيط لا يمت بصلةٍ للواقع.

وازدادت تلك الشعبية لدى بعض الحركات العمالية، التي لم ترتد المدارس البعثية وتردد شعار الطلائع كل صباح بالطبع ولم تصطدم بصور "القائد والأب المؤسس" أينما التفتت، بعد الحرب الأخيرة على اعتبار أن الأسد صمد في وجه محاولةٍ غربية لقلب النظام وإرساء أسس الليبرالية الحديثة.

الحالة السورية هي حالة بروباغندا ناجحة، تثبت أن الشعارات لا تتأثر بعوامل الزمن، ولا تنتهي صلاحيتها مع بلغت سهولة الوصول إلى المعلومة

هناك جانبٌ آخر من الإعجاب ببشار الأسد، يجمع كلا الطرفين، وهو موقفه من الحرب الأمريكية على العراق مطلع الألفية، التي كرهها الجميع. إذ يعتقد اليمين المتطرف الأمريكي أن "دعاة العولمة" الغامضين هم من أقنعوا الولايات المتحدة بالذهاب إلى الحرب في العراق. أما بالنسبة لليسار المتطرف، لا وجود لأطراف غامضة متآمرة، بل فقط إمبريالية أمريكية قديمة الطراز وقف بوجهها الأسد وقال "لا".

فبسبب غزو العراق، أصيب اليساريون بالحساسية تجاه أي عمل عسكري تكون الولايات المتحدة طرفًا فيه. إلا أن الحال ليس كذلك في التدخلات العسكرية الأخرى، إذ يوجد في أقصى اليسار قبولًا، وأحيانًا مدح، لقرارات فلاديمير بوتين في سوريا، وللمهارات القتالية لحزب الله وإيران، وذلك للمبررات نفسها المتعلقة بالحفاظ على تعددية قطبية العالم والصمود في وجه المدّ الغربي، لكن يبقى أي عمل عسكري يقوم به الغرب هو لعنة إمبريالية؛ وهو منظورٌ ثنائي بالغ التبسيط عالم-أولي بامتياز تبرع به المنظمات غير الحكومية.

يرى اليسار المتطرف الأمريكي، والغربي عمومًا، كذلك أن "علمانية" الأسد تعني أنه سيحمي الأقليات، وهي وجهة نظر تعزّز الاعتقاد بأن ازدياد التأثير الإسلامي على البلاد من شأنه أن يشكل تهديدًا للمسيحيين والأقليات الأخرى، إلا أن نفوذ وزارة الأوقاف البالغ، وميزانيتها التي تتجاوز ميزانية وزارة الاقتصاد، والصلاحيات الواسعة الممنوحة للجماعات الدينية من قبل الدولة، تحكي قصة مختلفة لا تصل للإعلام العالمي.

خلاصة القول، فإن الحالة السورية هي حالة بروباغندا ناجحة، تثبت أن الشعارات لا تتأثر بعوامل الزمن، ولا تنتهي صلاحيتها مع بلغت سهولة الوصول إلى المعلومة. فالداعم اليساري في مكتبه المطل على سنترال بارك، يقرأ في الدستور السوري أن الدولة يحكمها حزبٌ يقوم على الأسس الاشتراكية، لكنه لا يعلم أن الدعم الحكومي مرفوعٌ عن غالبية الشعب، وأن الخصخصة تتوغّل حتى في جسم الدولة نفسها، بينما لن يستطيع جاره اليميني إحصاء القطاعات التي تسيطر عليها الدول الخارجية من تحت الطاولة في الدولة التي وقفت في وجه الاستعمار والتدخل الخارجي. وبين هذا وذاك، تستمر المنظومة بتقديم بوفيه مفتوح من الشعارات الشعبوية الرنّانة على التلفزيونات وفي الإعلام، لينتقي الغربي منها ما يطيب له، ويغدو مُغرضًا أو متبصّرًا تبعًا لِما اختار.