18-نوفمبر-2017

لعبت بريطانيا دور الوكيل عن نظام القذافي في الأعمال القذرة (بيتر ماكديارميد/ Getty)

"ليس كل ما يقال حقيقة"، وهكذا الحال غالبًا في عالم السياسة، فقد نشرت صحيفة الغارديان البريطانية تحقيقًا مطولًا عن أوجه التعاون السري بين بريطانيا ونظام معمر القذافي. فرغم الخلافات البادية للعلن، إلا أنّ التعاون السري بينهما وصل لدرجات غير مسبوقة، كأن تُنفّذ بريطانيا جرائم بالنيابة عن القذافي! المزيد من التفاصيل في السطور التالية، وهي جزء أوّل ترجمناه بتصرف عن تحقيق الغارديان.


بعد خمسة أيام من هجمات 11 أيلول/سبتمبر، وفي إحدى أمسيات الأحد، انطلقت مجموعة صغيرة من مسؤولي المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) رفيعي المستوى من مقرهم الرئيسي في لانغلي بفرجينيا، إلى السفارة البريطانية الكائنة في 3100 ماساتشوستس أفينيو، في العاصمة واشنطن؛ لإطلاع جهاز الاستخبارات البريطاني (MI6) على خطتهم ردًا على الهجمات.

عقب هجمات 11 أيلول/سبتمبر، عملت "سي آي إيه" على توسيع نطاق مشروع بدأته منذ التسعينيات لاختطاف واستجواب الجهاديين

وعلى رأس هذا الوفد، كان هناك كوڤر بلاك، رئيس مركز مكافحة الإرهاب في "سي آي إيه"، ببدلةٍ لم يخلعها منذ خمسة أيام، ومظهر مُحطم، بعدما عمل بشكلٍ متواصل ليلًا ونهارًا، لرسم خطةٍ متماسكةٍ لحماية بلاده من أية هجمات قادمة. وداخل السفارة، قضى بلاك وزملاؤه ثلاث ساعات في الشرح التوضيحي لخططهم.

اقرأ/ي أيضًا: الأولى من نوعها.. تسوية تاريخية لصالح ضحايا تعذيب الـ"سي آي إيه"

منذ منتصف التسعينيات، أدارت "سي آي إيه" مشروعًا لخطف واستجواب الجهاديين في البوسنة على نطاقٍ ضيق. عُرف المشروع باسم "برنامج التسليم الاستثنائي". وتمثلت الخطة في زيادة حجم ونطاق هذا البرنامج بشكل ضخم.

وفقًا لتايلر درامهيلر، رئيس قسم عمليات المخابرات المركزية الأمريكية في أوروبا آنذاك، استمع مسؤولي الاستخبارات البريطانية في هدوء، بينما فصَّل بلاك خطته التي تضمنت تحديد المشتبه في انتمائهم لتنظيم القاعدة في جميع أرجاء العالم، واختطافهم واستجوابهم. في نهاية العرض التقديمي، علَّق مارك ألين، رئيس قسم مكافحة الإرهاب في جهاز الاستخبارات البريطاني قائلًا، إن تلك الخطة "تبدو مروّعة، وكأن رائحة الدم تنضح منها".

وأشار درامهيلر إلى أن مسؤولي الاستخبارات البريطانية بدوا شديدي القلق، وأن بعضًا من رفاقه في المخابرات المركزية الأمريكية، ذوي الخبرة الأقل في التعامل مع البريطانيين، أساءوا تفسير سلوكهم غير المكترث تقريبًا، أو بدرجةٍ طفيفة باعتباره علامةٍ على الموافقة.

رغب ألن في معرفة ما الذي ستفعله كُلٌ من المخابرات المركزية الأمريكية وجهاز الاستخبارات البريطاني، بعدما تتشتت القاعدة وينتشر أعضاؤها في أنحاء العالم، وتسائل: "وما الذي سنفعله بمجرد أن ننتهي من أفغانستان؟"، تبادل مسؤولي "سي آي إيه" النظرات، وبحسب إحدى الشهادات، أجاب بلاك: "سنُحاكَم جميعًا على الأغلب".

مارك ألين، الرئيس السابق لقسم مكافحة الإرهاب بالاستخبارات البريطانية (MI6)
مارك ألين، الرئيس السابق لقسم مكافحة الإرهاب بالاستخبارات البريطانية (MI6)

كان عدد القتلى الناجم عن هجمات 11 أيلول/سبتمبر مازال في ازدياد، وكان الرئيس الأمريكي، جورج دبليو بوش، حريصًا على اتخاذ موقفٍ صارم. ففي اليوم التالي للإحاطة التي قدمها البنتاغون، عقد بوش مؤتمرًا صحفيًا ألمح فيه إلى ما سيجري في المستقبل، قائلًا: "أريد العدل. هناك ملصق قديم في الغرب يقول: مطلوب حيًا أو ميتًا".

أما الآثار المترتبة على ذلك، فستظهر جليةً في مطلع العام التالي، حين اجتمع رؤساء أجهزة الاستخبارات في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا ونيوزيلندا وأستراليا سويًا، في اجتماع عُقد في كوينز تاون، أحد منتجعات التزلُج في نيوزيلندا، أصر جورج تينيت، رئيس المخابرات المركزية الأمريكية، على أنه بوسعهم فهم تنظيم القاعدة وهزيمته، فقط من خلال التعاون الوثيق مع أجهزة الاستخبارات في العالم الإسلامي، وإذا وافقوا على القيام بما يتطلبه الأمر لمواجهة الإرهابيين. وأعلن تينيت: "لقد أُزيلت الأغلال يا أصدقائي".  

وتمثلت إحدى أهم الضرورات المُلحة وقتئذٍ، في إنشاء علاقاتٍ وثيقة بأجهزة الاستخبارات الموجودة في أرجاء العالم العربي. وبوجود هذا الهدف نُصْب أعين أجهزة الاستخبارات الغربية، بدأت الاستخبارات الأمريكية والبريطانية بالتعاون مع جهاز الأمن الخارجي الليبي (ESO)، وكالة الاستخبارات سيئة السمعة التابعة لمعمر القذافي.

كانت الخطة المُفترض اتباعها، معرفة المزيد عن الجماعات الجهادية المسلحة، إلا أن هذا الهدف قد تغير خلال العام التالي، بمجرد أن سنحت الفرصة لمارك ألين وقادته من الساسة البريطانيين للدخول مع القذافي في مفاوضات حول برنامجه الخاص بتطوير أسلحة الدمار الشامل. فقد كان القذافي يسعى لتطوير قدراته النووية منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، من خلال محاولته الحصول على أسلحةٍ هندية في بداية الأمر، ثم محاولاته للحصول على خام اليورانيوم، وتكنولوجيا تخصيبه.

ومع أواخر صيف عام 2003، بعد أن بدأت الحرب في العراق تنقلب على الولايات المتحدة وحلفائها، بدا جليًا وبشكلٍ كبير، أن أسلحة الدمار الشامل التي زُعم أنها في يد صدام حسين (برنامج تطوير أسلحة الدمار الشامل الذي كان الذريعة الأساسية لغزو العراق) لم تكن موجودة من الأساس. ولكن، إذا كان من الممكن الضغط على القذافي من أجل التنازل عن خططه النووية، فسوف يتسنى لأولئك الذين دعموا الحرب على العراق الادعاء بوجود مُبرر حقيقي للغزو!

وثّقت الاستخبارات البريطانية والأمريكية علاقتهما بليبيا، لدرجة أنهما ساعدتا ليبيا على اخطاف بعض الشخصيات المعارضة للقذافي آنذاك

في الوقت الذي وثّقت فيه "سي آي إيه"، وجهاز "MI6" البريطاني علاقتهما بليبيا، ساعدت الوكالتان الجواسيس الليبيين في اختطاف بعض الشخصيات المناوئة للقذافي. فقد تم اختطاف اثنين من أبرز شخصيات المعارضة الليبية اللذيْن فرا من البلاد، أحدهما تم اختطافه من هونغ كونغ، والآخر من تايلاند، ومن ثم اُحضرا إلى طرابلس مع زوجاتهما وأطفالهما. وتعرض كلا الرجلين للتعذيب الشديد. وقد أرسل عملاء جهاز "MI6" أسئلة استجواب السجينين لنظرائهم من المخابرات الليبية، واضطر الرجلين تحت وطأة التعذيب الشديد، الإدلاء بمعلومات عن غيرهم من المعارضين الليبيين خارج البلاد.

اقرأ/ي أيضًا: 9 حقائق هامة ينبغي ألا ننساها عن الغزو الأمريكي للعراق

واعتقلت الشرطة البريطانية المعارضين لنظام القذافي، والذين عاشوا لسنواتٍ طوال بشكلٍ قانوني في بريطانيا، وقامت الحكومة البريطانية بدورها بمحاولات ترحيلهم إلى طرابلس. وقد تم استهداف عملاء المخابرات الليبية الباحثين عن اللجوء من الليبيين، والمواطنين مزدوجي الجنسية الليبية والبريطانية، في شوارع مانشستر ولندن، وذلك بعد أن استقدمت بريطانيا هؤلاء العملاء، وصرحت لهم بالعمل في شوارعها جنبًا إلى جنب مع عملاء جهاز "MI5". كما سلمت المخابرات البريطانية تفاصيل المكالمات الهاتفية الخاصة بالشخصيات الليبية المستهدفة  لجهاز الأمن الخارجي الليبي، ما ترتب عليه اعتقال وتهديد أقاربهم وأصدقائهم داخل ليبيا.

وتم التوصل إلى تفاصيل الترتيبات الخفية التي أجرتها كُلٌ من أجهزة استخبارات الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا والمخابرات الليبية، من خلال مقابلات مع المسؤولين الحكوميين وضحايا هذه التسليمات، وظهر ذلك من خلال عدد من الوثائق التي أفرجت عنها الحكومة البريطانية بموجب قانون حرية تداول المعلومات، والتي تضمنت عددًا كبيرًا من محاضر تحقيقات الشرطة البريطانية، بالإضافة إلى عدد كبير آخر من المحاكمات المدنية.

إلا أن الحجم الأكبر من الوثائق الآتية، والتي تفضح كثير من الأمور الاستثنائية الخفية المتعلقة بالتعاون الاستخباراتي البريطاني والأمريكي والليبي، قد تم اكتشافها خلال الفوضى التي عمّت ليبيا عام 2011، في المكاتب الحكومية المهجورة، وكذا في السجون وأماكن إقامة المسؤولين الخاصة. بل إن العديد من الوثائق الأكثر غرابةً وإثارةً، وُجدت داخل مقرات جهاز الأمن الخارجي الليبي، خلال شهر أيلول/سبتمبر من ذاك العام، من قِبل النشطاء الليبيين، والناشطين في مجال حقوق الإنسان. كما ظهرت بعض الوثائق الأخرى في مختلف المقرات الحكومية بعد القبض على القذافي وقتله في الشهر التالي. بوضع كل هذه الوثائق معًا، قد تصل إلى عدة آلاف من الصفحات.

وتشير هذه الوثائق إلى أن التقارب الذي أعقب أحداث 11 أيلول/سبتمبر، بين نظام القذافي والغرب -حكومة توني بلير بصفةٍ خاصة- كان أكثر عمقًا من أي وقت مضى.

وكانت النتيجة الأكثر تداولًا على الساحة الإعلامية لجولة المفاوضات الجديدة مع ليبيا، إعلان الديكتاتور تخليه عن طموحاته بتطوير برامج أسلحة الدمار الشامل، سواء كانت هذه البرامج تتعلق بالأسلحة النووية أو الكيميائية أو البيولوجية. بالإضافة إلى إبرام صفقات غاز ونفط بعدة ملايين من الدولارات. إلا أن هذه العلاقة أنتجت أيضًا بعض الثمار الأكثر مرارةً، على الجانب المخابراتي الخفي، والتي تضمنت عمليات اختطاف واعتقال وضرب وتعذيب، تمت بمساعدة "سي آي إيه"، "MI6".

وتُقدم تلك الوثائق السرية حتى الآن، لمحةً فريدةً لسياسة الواقع التي لم يكن بالإمكان تخيُلها بأي حالٍ من الأحوال، لو لم تكن مُفصلة في وثيقة تلو الأخرى. إذ تُظهر هذه الوثائق مدى حماسة وكالات الاستخبارات البريطانية للتقرُب من القذافي، والتأثير على التوجهات المستقبلية للديكتاتور، واستعدادها الكامل لارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان نيابةً عنه.

في العشرين من أيلول/سبتمبر لعام 2001، وبعد أربعة أيام فقط من إحاطة "سي آي إيه" بتسريع وتيرة إجراءات برنامج إعادة التسليم، كان رئيس "MI6"، مارك ألين، يعقد اجتماعًا مع أحد كبار مسؤولي الاستخبارات الليبية. وكانت أجهزة الاستخبارات الغربية على علمٍ تام بالذعر الذي يشعر به القذافي بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، فقد كانت ليبيا ضمن قائمة الدول الداعمة للإرهاب بسجلٍ كبير، إذ كانت حكومة القذافي خلف تفجير رحلة خطوط بان أمريكان العالمية رقم 103 عام 1988 فوق مدينة لوكربي الإسكتلندية، ما أسفر عن مقتل 270 شخصًا.

كما يُشتبه في ضلوع ليبيا أيضًا في تفجير ملهى ويست برلين الليلي الذي كان يتردد عليه العسكريين الأمريكيين عام 1986، بالإضافة إلى الاتهامات بإسقاط الرحلة رقم 772 لطائرة خطوط "UTA" الفرنسية، فوق دولة تشاد عام 1989، ما تسبب في مصرع 170 شخصًا. علاوةً على ذلك، لم يخفي القذافي دعمه العلني وإمداده للجيش الجمهوري الأيرلندي بالسلاح.

سارع الديكتاتور المعروف بسوء سمعته في دعم الإرهاب، بإدانة تنظيم القاعدة لارتكابه هذا الهجوم، إلا أن هذه الإدانة العلنية كانت بعيدة كل البعد عن أن تنأى به عن غضب الولايات المتحدة الأمريكية. فوفقًا لبرقية أرسلها سفير الولايات المتحدة في القاهرة آنذاك، ديفيد ويلش، فإن القذافي كان يتصل بكل الزعماء العرب متوسلًا إياهم لعقد قمة لثني الولايات المتحدة عن شن هجوم على بلاده. وكتب ويلش، أنه عندما اتصل بالملك عبدالله، ملك الأردن، كان عصبيًا وهيستيريًا للغاية.

كان يجلس أمام ألن في ذلك الاجتماع، أحد الأشخاص القليلين في العالم القادرين على تهدئة معمر القذافي وهو موسى كوسا، والذي عمل على مقربةٍ من القذافي لمدة أكثر من عشرين عامًا، والذي كان في ذلك الوقت يرأس جهاز الأمن الخارجي الليبي، ذلك الجهاز الذي كان يُعتقد أنه نظم العديد من الهجمات الليبية الإرهابية. وكان القذافي يثق في كوسا، ويحترم نصائحه.

لتعزيز التعاون مع المخابرات الليبية، تجاهلت بريطانيا اتهاماتها السابقة للقذافي بالتورط في هجمات إرهابية بعضها طال بريطانيا نفسها

كان ألين وكوسا لديهما العديد من القواسم المشتركة، فقد كانا كلاهما في الخمسينيات من العمر، كما أنهما واسعيْ الثقافة، وحريصان على عاداتهما وأخلاقهما، بالإضافة إلى التزامهما الديني، الإسلامي والكاثوليكي الروماني. وكانا يجيدان لغات بعضهما البعض. وقد تعامل كلاهما ببراغماتية عالية في مواجهة تهديد تنظيم القاعدة. وتُظهر الوثائق السرية أن كوسا قد عرض على ألين إمداده بمعلومات تم الحصول عليها من الرجال المحتجزين في السجون الليبية، كما اتفق الرجلان على "ضرورة اجتماع خبراء مكافحة الإرهاب من كلا البلدين لمناقشة الأعداء المشتركين".

معمر القذافي وإلى جواره موسى كوسا في إحدى القمم العربية
معمر القذافي وإلى جواره موسى كوسا في إحدى القمم العربية

وفي رسالة متابعة أرسلها بعد أسبوعين، قال ألين إنه: "مهتم جدًا بعمليات اختراق مشتركة" ضد منظمة تُدعى الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا، أو الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة. وبالرغم من انضمام بعض أعضاء الجماعة إلى تنظيم القاعدة في أفغانستان، فإن قيادتها رفضت منذ سنوات تصريحات أسامة بن لادن، وظلت تُركز على الإطاحة بالقذافي. وعلى الرغم من ذلك، يعتقد ألين بوضوح أن أعضاء الجماعة الليبية المقاتلة يمكن أن يُقدموا معلومات عن التهديد المحتمل من القاعدة. وعلى وجه الخصوص، أعرب ألين عن اهتمامه بأحد الزعماء العسكريين في الجماعة المقاتلة، ويبلغ من العمر آنذاك 35 سنة وهو جندي من الجنود القدماء في الحرب السوڤيتية الأفغانية، ويُعرف باسم عبد الحكيم بلحاج.

اقرأ/ي أيضًا: ليبيا.. الصراع على الهلال النفطي وأثره في الأزمة

وفي 13 تشرين الثاني/نوفمبر سنة 2001، وقّع بوش أمرًا عسكريًا يُجيز الاستخدام واسع النطاق لعمليات التسليم القسري والتعذيب. وبعد بضعة أيام، اجتمع جهاز الأمن الخارجي الليبي وجهاز الاستخبارات البريطاني مرةً أخرى. وحتى الآن، أشار الليبيون إلى أن أجهزة الاستخبارات البريطانية "عازمةً على تجربة تجنيد المصادر".

وفي سياق "الحرب ضد الإرهاب" التي كانت تخوضها بريطانيا، أعطى قانون مكافحة الإرهاب والجريمة والأمن، الصادر منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2001، سلطة احتجاز الأفراد دون محاكمة لوزير الداخلية، وأعطى لوكالات الاستخبارات، سلطة أكثر لاستهداف المشتبه بهم.

وبحلول آب/أغسطس 2002، استُعيدت العلاقات بين بريطانيا وليبيا مؤقتًا، بهدف ما سيُطلِق عليه توني بلير فيما بعد "الجائزة الضخمة" للتعاون الأمني مع المخابرات الليبية. وقُبل سيف الإسلام معمر القذافي، بمدرسة لندن للاقتصاد في محاولته الثانية. وخلال محادثة هاتفية مبدئية تبادل بلير والقذافي المجاملات. وزار وزير الخارجية الأوغندي، مايك أوبريان القذافي في سرت، مسقط رأس الديكتاتور، وسلم رسالة من بلير. وتعد هذه أول اتصالات وزارية بريطانية منذ عام 1984، عندما قطعت بريطانيا العلاقات الدبلوماسية بعد قتل الشرطية، إيفون فليتشر، بطلقاتٍ نارية من داخل السفارة الليبية في لندن.

وبغض النظر عن اعتبار القذافي مجنونًا خطيرًا على مستوى الشرق الأوسط. فقد يكون رجلًا مجنونًا، لكن على كل حال، يبدو أن المسؤولين في المناصب العُليا في الحكومة البريطانية آنذاك، توصلوا إلى استنتاج يقضي بأنه "المجنون الخاص بنا"!

ولم ينُفَّذ الكثير من العمل في بناء الشراكة من قِبل الوزراء، ولا من قِبل الدبلوماسيين، ولكن أُنجِز من قِبل ضباط المخابرات، ولا سيما ألين من بريطانيا وكوسا من ليبيا، اللذيْن اجتمعا كثيرًا خلال عام 2002، ويبدو أنهما أصبحا صديقين حميمين. وبدأت هدايا التمور والبرتقال من طرابلس في الظهور في مقر المخابرات البريطانية على الضفة الجنوبية من نهر التايمز. وفي 20 أيلول/سبتمبر 2003، في الذكرى الأولى للاجتماع الأول للرجال، تمت دعوة كوسا إلى مأدُبة عشاء في فندق غورينغ الفخم.

وكانت أول زيارة لكوسا إلى بريطانيا منذ عقود سبقت توقيت ما نتحدث عنه، إذ كانت في حزيران/يونيو 1980، كرئيسٍ للمكتب الشعبي الليبي، وبصفته رئيس مكتب سفارة بلاده في لندن. كان حينها معروفًا، وأجرى مقابلة استثنائية مع صحيفة التايمز البريطانية، اعترف فيها بأنه أعطى موافقته الشخصية على مقتل اثنين من الليبيين المقيمين في بريطانيا. وكان اللورد كارينجتون، الذي كان حينذاك وزير الخارجية، قد سمح لأقدام كوسا أن تلمس الأرض عندما طُرِد خارج البلاد.

ثم بعد 23 عامًا، يعود كوسا لبريطانيا، يأكل ويشرب على مرمى حجر من قصر باكينغهام، وحينها لا يبدو أنه كان هناك نقاش حول جرائم القتل التي أعطى كوسا الإذن بتنفيذها في لندن قبل عقدين من الزمن. كما لم ترد أي إشارة إلى الاعتداءات العشرة التي استهدفت معارضي القذافي في مانشستر ولندن في آذار/مارس من سنة 1984 والتي أسفرت عن إصابة 29 شخصًا بجروح.

بعد توطد العلاقات السرية بينهما، عرض بلير على القذافي التخلي عن أسلحة الدمار الشامل مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عن بلاده

وبدلًا من ذلك، كانت هناك محادثات حول "القضايا الثنائية والدولية"، وتبادُل المعلومات الاستخباراتية، وعن رغبة جهاز الاستخبارات في لندن في أن يكون سيف القذافي آمنًا ومرتاحًا أثناء وجوده في لندن. ثم تحول الحديث إلى خصوم الديكتاتور السياسيين الذين يعيشون في بريطانيا.

وبفضل روح التعاون الجديدة، كتب بلير إلى القذافي، مقترحًا أن العقوبات التي كانت تُعيق صناعة النفط في بلاده وتضع عبئًا هائًلا على اقتصادها، قد تُرفع إذا وافق على التخلي عن أسلحة الدمار الشامل التي كانت مصدر قلق بالغ للغرب منذ فترة طويلة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صحف لندن في موسم تصفية الحساب مع توني بلير

هل الربيع العربي من جلب الخراب؟