06-ديسمبر-2020

مخاوف من تكرار تجربة بريكست (Getty)

قانون جديد يدفع به الاتحاد الأوروبي إلى الواجهة، يفرضُ على منصات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها فيسبوك، التزام الشفافية والكشف المفصل عن الجهات الممولة للحملات الانتخابية المروّجة على صفحاتها. والهدف، كما يحدده الاتحاد، عرقلة الأخبارِ الزائفة وتوجيه الرأي العام، في نزاع يحتدم منذُ انفجار قضية "كامبريدج أناليتيكا"، والتي تورّطَت فيها منصة فيسبوك بتسريب البيانات الشخصية للملايين من مستخدميها بغرض توجيه الرأي العام البريطاني لصالح حملة البريكسيت. هكذا يدعو الاتحاد الأوروبي شركات البرمجيات ووسائل التواصل الاجتماعي إلى تحمّل مسؤوليتها، فيما ترفضُ هذه الشركات أي قانون يحدّد نشاطها داخل القارة العجوز، بالمقابل تلوح بروكسيل "أن خطأ البريكسيت لن يتكرر!". 

قانون جديد يدفع به الاتحاد الأوروبي إلى الواجهة، يفرضُ على منصات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها فيسبوك، التزام الشفافية والكشف المفصل عن الجهات الممولة للحملات الانتخابية المروّجة

لن نكرر خطأ البريكسيت

في ندوة صحفية، كشفت نائبة رئيس المفوضية الأوروبية، فيرا جوروفا، مسودة قانونها الجديد لـ "محاربة الأخبار الزائفة وتوجيه الرأي العام"، مؤكدة على أن هذا القانون يأتي وفق "ضرورة تحديث نص القانون الأوروبي لينظّم الحملات السياسية الإلكترونية". وعلى أساسه، سيفرض الاتحاد رقابة على منصات التواصل الاجتماعي بخصوص المحتوى الإشهاري ذي الطابع السياسي، ويمنع استهداف وتوجيه الرأي العام عبر هذه القنوات.

اقرأ/ي أيضًا: السوشال ميديا بعد الرأسمالية.. كيف يمكن إنشاء فيسبوك اشتراكي؟

"نؤمن من أن لكل فرد حق معرفة لمَ يعرض أمامه هذا المحتوى ومن دفع ثمنه، ولا نريد أن تكون الانتخابات مجالًا للتنافس بطرقَ وسخة!"، توضح فيرا جوروفا، فيما "الطرق الوسخة" المقصود بها ما وقع سنة 2016 خلال استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد، وما بات يعرف لاحقًا بـ "فضيحة كامبردج أناليتيكا". وتضيف نائبة فون دير لين، قائلة: " نرفض أي طرق يتم الاعتماد فيها على ترجيح كفّة من يمتلك أكبر عددًا من المعطيات الشخصية لمستخدمي شبكات التواصل، دون علم هؤلاء المستخدمين وفي خرق تام لحقهم في الخصوصية".

وهذا، حسب المتحدثّة، رهين انخراط الشركات المعنية في تحمّل مسؤوليها إزاء هذه الأفعال. انخراط تلقائي هو ما يشّكُ في حدوثه، خصوصًا وهذه الشركات ترفض أن يتمّ فرض قوانين على عملها، كما تكشف ذلك محادثات إدارة فيسبوك مع الاتحاد الأوروبي، والتي غالبًا ما طبعتها الحدة والصدام والضغط المتبادل من الجانبين. وعلى إثر هذا عبّرت فيرا جوروفا عن عدم رضاها بشأن نوايا الشركات المذكورة، بالمقابل فإن الدفع بهذا القانون سيلزمها بالرضوخ إلى مبدأ الشفافية.  

عودة إلى البريكسيت وفضيحة "كامبردج أناليتيكا"

شعار "350 مليون جنيه التي نبعثها للاتحاد من الأجدر بنا أن نمول بها وزارة الصحة!" هو شعارٌ يحمل معلومات مغلوطة، تمّ الترويج له أثناء استفتاء البريكسيت، وحسب عديد من المحللين فقد وجّه خيار جزء مهم من الناخبين، وفق ما صرّحت نائبة رئيس المفوضية الأوروبية خلال ندوتها المذكورة، فيما تعيدنا هذه الإشارة إلى ما حدثَ آنذاك خلال استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

عودة إلى سنة 2016، قبل الاستفتاء، قادت الترويج لخيار البريكسيت حملتان دعائيتان: الأولى حملة "Leave.EU" بقيادة رجل الأعمال آرون بانكس ونايجل فاراج اليميني المتطرف، و الثانية "Vote Leave" التي تجمع محافظين كما أعضاء من حزب العمال، والتي تشابه الأولى في التشكك من الاتحاد غير أنها أخف تطرفًا ناحية اليمين.

ولهذا الغرض تعاقدت الحملتان مع شركتي الاتصال الرقمي "Aggregate IQ" مع حملة "Vote Leave”، وCambridge Analytica مع حملة Leave.EU. في الأخير كلتا الشركتين تعودان لرجل واحد، هو الملياردير الأمريكي روبرت ميرسير. سنة 2018، فجرت جريدتا الجارديان البريطانية والنيويورك تايمز الأمريكية فضيحة كامبريدج أناليتيكا، كاشفين إقدام الشركة المذكورة على سرقة بيانات ما يزيد عن 87 مليون مشترك بموقع فيسبوك، واستغلالها لتوجيه الأصوات الانتخابية سنة 2016: خلال الانتخابات الأمريكية واستفتاء البريكسيت.

في قصة هزت العالم آنذاك، تم اكتشاف تفاصيلها من خلال تسريبات أحد مهندسي الشركة، كريستوفر ويلي، الذي صرّح: "لقد استخدمنا ملايين البيانات الشخصية لأفراد على فيسبوك، وقمنا بنمذجتها بهدف توجيه آراء هؤلاء الأفراد، وهذا ميدان اشتغال الشركة الأساسي". ويلي الذي لقي هجومًا كبيرًا قادته هذه الشركات، سلم بعد فضح المستور كل النماذج التي كانت بحوزته، مرفوقة برسالة من محامي شركة فيسبوك تطالبه بعد نهاية المشروع بالتخلص من كل البيانات، إلى السلطات الأمريكية والبريطانية.

أنكر آرون بانكس أي علاقة لحملته بشركة تحليل البيانات المذكورة، قائلًا: "لم نتعامل مع كامبريدج أناليتيكا ولم نتلق أي بيانات منها، والبيانات التي تلقيناها كانت من حزب UKip وحاولوا أن يجروني للدفع لهم مقابلها لكن رفضت ورفضت استخدامها كذلك". بدوره ألكسندر نيكس، المدير التنفيذي لكامبريدج أناليتيكا، نفى علاقته بحملة بانكس أثناء شهادته أمام البرلمان البريطاني، قائلًا: "لم نشتغل مع حملة Leave.EU، لم نقم بأي عمل سواء كان مأجورًا أو تطوعيًا".

هذا الإنكار من الجانبين يطرح سؤالًا أساسيًا: ماذا كان يفعل آرون بانكس وألكسندر نيكس في اللقاء السري الذي جمع بينهما ذات تشرين الأول أكتوبر من سنة 2015، كما كشفت عن ذلك الإيميلات المسربة لـopenDemocracy؟ سؤال يجيب عليه بيان سابق لحملة "Leave.EU" بعنوان "العلم يقف وراء استراتيجينا", سرعان ما تم سحبه من صفحتها الرسمية مع ذلك لم يمنع من أن يتلقفه موقع Mediapart الفرنسي. تقول فيه الحملة: "كامبريدج أناليتيكا هي رائد عالمي في مجال استهداف الأصوات الانتخابية، وستساعدنا على رسم خارطة سياسية لبريطانيا مما سيمكننا من الوصول بشكل مركز للأصوات".

"ما كتب كان عبارة عن تعاون أصدقاء" تورد Mediapart على لسان مدير خلية التواصل بحملة "Leave.EU". صداقة من بمن؟ هنا يبرز دور رجل آخر هو نايجل فاراج، الذي عدا كونه زعيم الـ UKip سابقًا والـ Brexit لاحقًا، فهو على علاقة مقرّبة من روبرت ميرسير مالك الكامبريدج أناليتيكا. يضيف مقال الموقع الفرنسي على لسان الناطق الرسمي للحملة: "نايجل فاراج كان صديق روبرت ميرسير المقرب، وهذا عرض علينا خدماته دون الدفع مقابلها".

هذه العملية أثارت اهتمام عملاق الانتاج السينمائي Netflix، ليخص لها فيلمًا وثائقيًا عنونه بـ "انتبه قد تم اختراقك". الفيلم الذي هدد آرون بانكس بمتابعته قضائيًا بتهم التشهير، بعد تحريكه قضية في ذات الشأن بخصوص صحفية الغارديان التي فجرت الفضيحة كارول كادوالادر. فيما بطلة الوثائقي المذكور كانت بريتاني كيزر، مديرة سابقة بكامبريدج أناليتيكا، والتي صرحت سابقًا بما يثبت اشتغال شركتها السابقة لصالح "Leave.EU"، وأن نسب النماذج التي سلمتها كامبريدج أناليتيكا للحملة إلى UKip كان فقط تمويه لتلك الحقيقة.

بريتاني كيزر التي عادت لتحريك القضية مؤخرًا، كاشفة الشهر الماضي عن بيانات جديدة، توضح اشتغال كامبريدج أناليتيكا على عدة مشاريع بينها: الانتخابات في كينيا، الرئاسيات الأمريكية، خلايا التفكير المؤامراتية في واشنطن أو حتى وكالة السلاح الأمريكية. كشفت كذلك عن فاتورة أتعاب شركة كامبريدج أناليتيكا لـ "Leave.EU" بقيمة مليون جنيه استرليني، مما يرجح اعتماد حملة أرون بانكس على نشاطات شركة الاستهداف المشبوهة، ويضيف لطخة وحل للوجه المظلم للبريكسيت. 

فضيحة بتمويل مشبوه

رغم تشابه مساعي الحملتين بالخروج من الاتحاد، إلا والصراع بينهما كان طاحنًا حول مسائل مركزية في هذا الخروج، هو ذات الصراع الذي يطرح جذوره في مرحلة ما بعد حسم البريكسيت وأي قوة ستحسم المشهد آنذاك إلى صالحها. اليمين الشعبوي، بحملته "Leave.EU" وأحزابه الـ UKip أولًا والـ Brexit لاحقًا، حقق اختراقًا ملحوظًا في هذه المسألة ونجح في تقديم نفسه كممثل رسمي للبريكسيت، خصوصًا واتساق خطابه مع صعود بوريس جونسون إلى سدة رئاسة الحكومة.

هذا يكشف كذلك وجود عوامل أخرى رجحت كفة الـ "Leave.EU"، عوامل يتداخل فيها رأس المال السياسي، المجرَّم قانونيًا في بريطانيا، والنفوذ الإداري على موظفي شركات خاصة. كل هذا يلتقي في رجل واحد، اسم واحد، هو: آرون بانكس المليونير الإنجليزي ورائد التأمينات بالبلاد.

منذ 2014 استثمر بانكس أكثر من 10 ملايين جنيه استرليني في طموحاته السياسية. ومنذ 2016 يلعب هذا الأخير دورًا محوريًا في حملة البريكسيت اليمينية الشعبوية، وإضافة إلى قيادتها سياسيًا مثل الجيب السخي لتمويلاتها. بداية بتبرعه بمبلغ 8 مليون جنيه إسترليني لصالحها، وإقراضه 6 ملايين أخرى لصالح ذات الحملة، كاسرًا بذلك السقف الذي يحدده القانون البريطاني في هذا الشأن. من ضمن هذه المبالغ كان تمويل مشبوه تلقاه نايجل فاراج سنة 2017، على شكل حوالة مالية بقيمة 450 ألف كانت موضوع مساءلة أوروبية لحقت النائب البريطاني.

لطالمَا صرح آرون بانكس أن اشتغاله في مجال التأمينات ومسيرته السياسية منفصلان تمامًا، هذه التصريحات يثبت الواقع عكسها. وهو ما يرد في التسريبات التي كشفها موقع openDemocracy البريطاني، وتبرز عبر سلسلة من الإيميلات وجهها المليونير البريطاني لموظفيه في شركات التأمين لإقحامهم في حمله Leave.EU، وإجبارهم على الاشتغال لصالحها.

في تصريحه للموقع المذكور يقول النائب المحافظ داميان كولينز: "لو أن موظفي تأمينات آرون بانكس اشتغلوا على الحملة ودفع لهم إزاء ذلك، كان يجب التصريح بنفقاتهم ضمن التقارير المالية لها. لكن بانكس استمر في إنكاره الأمر". إنكار بانكس لما أظهرته الإيميلات المسربة أن موظفي شركات التأمين دفع بهم للاشتغال في حملات البريكسيت، ذهب بعيدًا إلى نفيه أي تمويل للـ UKip أو حزب الـ Brexit بعده.

هذه المعطيات وضعت آرون بانكس تحت مساءلة وكالة الجريمة البريطانية، منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، التي أكدت وجود خروقات عديدة اقترفها المليونير البريطاني. بالمقابل تشبث بانكس بإنكاره المنسوب إليه، واصفًا تلك التحقيقات بذات الأغراض السياسية. فيما بقي أصل الـ 8 ملايين جنيه استرليني التي تبرع بها لصالح Leave.EU تثير شكوك عديدة، والتي نفت لجنة التقصي الانتخابية أن يكون ما صرح به بانكس بشأنها صحيح.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا يعدّ فيسبوك عدّو الصحافة الوحيد؟

يعلل بانكس تصاعد ثروته بـ "استثماره في اكتشافات مهمة للماس في دولة ليزوتو"، فيما يشير مقال آخر لموقع openDemocracy إلى تلقي المليونير مبلغ 77 مليون جنيه إسترليني من جهات مجهولة المصدر، تستعمل غطاء ضريبيًا لتخفي هويتها.

الاتحاد الأوروبي: نرفض أي طرق يتم الاعتماد فيها على ترجيح كفّة من يمتلك أكبر عددًا من المعطيات الشخصية لمستخدمي شبكات التواصل

وفي تحقيق سابق لها، أكدت جريدة الغارديان البريطانية العلاقات المالية الوثيقة بين آرون بانكس وموسكو. حيث بينت وثائق سرية كشفت عنها الجريدة عن صفقة أبرمها المليونير البريطاني مع شركة ذهب روسية تحت رعاية سفارة السفير الروسي بلندن. صفقة علق عليها النائب المحافظ بن برادشو قائلًا: "بانكس ليس صريحًا في علاقته بالسفارة الروسية، وانكشاف هذه الصفقة يرجح الشكوك حول تدخل موسكو في استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي، وإلا ما الدافع الذي يجبرها على منح فتاها المدلل الذي هو نفسه الممول الأكبر لحملات البريكسيت هذه الصفقة المغرية؟".