15-فبراير-2017

محمد الحواجري/ فلسطين

كنت قد تركت منزلنا المليء بالذكريات المضرّة بالصّحة، الذكريات التي تميت القلب وتستأصل أكبر جزء من الذاكرة، تهدم الجسد وتكسر الظهر. ذكريات لا قلب لي على العيش دونها، لكنها بقدر ما هي موجعة ومخيفة بقدر ما هي جميلة. 

لطالما اعتدت أن أعيش الانكسارات لوحدي، وهزيمتي أيضًا كنت أتلقاها لوحدي دونما ظل أو ظهر يسند عجزي، ولا عكاز، اعتدت أن أشرب كأس الماء مر، مذ رحل والداي وأنا لا أعرف طعم الابتسامة، أنا جسد فقط بلا روح، أنا وجع يمشي على الأرض لا قوة له ولا حول، أنا كل شيء من الحزن واللاشيء من الفرح، أنا ذاك الفستان الأبيض المركون خلف الخزانة لعروس ستزف لغير حبيبها، أنا حارس مقابر ماتت أمه في ليلة ظن أن لا موت فيها، وذهب لبيته كاستراحة من حراسة الذين ولوا، أنا اليتيمة التي لن ولم تشف من وجع لا يمحى بضحكات وفرح مئات السنين.
 
بعد رحيل أبي الذي غادر الدنيا تاركًا وراءه فتاة لا تفقه في الحياة شيئًا، ورحيل أمي قبله بأشهر، متّ أنا، كانت الجارات يساعدنني ويشفقن على فتاة تبلغ العشرين من عمرها، ولكنها تخطّت يأس الأربعين ووجع الستين وقلق السبعين من موت مفاجئ، ودخلت في عمر المئة والاثنين. كنت دائمًا ما أقول لنفسي إن الوجع هو الذي يحدد أعمارنا، وليست تلك الأرقام وحسب؛ هناك عشرينيات يبلغن من الوجع سبعين عامًا، وهناك من الخمسينيات من لا يزلن طفلات ويأخذن الحياة بكل سذاجة، وجعي أنني كنت من الفئة الأولى.

عندما غادرت الحي وتركت المنزل بما فيه من ملابس بلون عيوني وأجزاء قلبي، ملابس أمي المهترئة، وعكاز أبي، حبيبه وصديقه الصدوق وحامل همومه وساند انحناءة ظهره، تركت اللوحات والصور التي جمعتني بهم في تلك السنين، التي كنت فيها قطة أبيها المدللة وحبيبة أمها الشقية، خطّطت كثيرًا لذاك الرحيل بحيث إني لم أودع أحدًا من أهل الحي، لا الجارات ولا صديقات أمي وأقرباء أبي، ولا شقيق الروح وحبيبي الذي كان بمثابة جدي وانعكاسًا لعمري، تركت المنزل المحاط بالوجع والغيوم السوداء دونما مطر، ورحلت.

ولكن، وقبل رحيلي بيومين، كنت تعرف أنني لن أقوى على فراقك، لكنني هذه المرة قرّرت وسأرحل تاركة خلفي كل شيء وكل شخص مرّ عابرًا على قلبي وترك خلفه أثرًا ما، ضحكة ما، أو جرحًا، أو ثقبًا في باطن القلب لا تداويه آلاف ضحكات السنين كالذي تركته أنت، ليلتها كانت أقسى ليلة في عمرك وعمري وعمر الليل الذي يشهد على كل نفخة وجع وثقب في القلب، كانت دموعك قاسية رغم رقّتها وموجعة كأنها دماء تسيل من عين رضيع أبصر الحياة منذ ساعة، كأنها ذاك التشوّه في القلب الذي خلق بجنين قبل ولادته وحكم عليه العيش ميتًا دونما اعتراض على مشيئة الخالق، كانت دموعك عتبًا يا جدي وأبي "وخيا"، آه لو تدري ماذا فعلت أنت! إنه ثقب في باطن القلب لن تداويه كل الأيام، وكل حضن حتى أوسعهم رحمة وعطفًا ودفئًا، "حضن أمي" رحمها الله، كانت دموعك موحشة كالليل كالحنين والوحدة والغربة، كانت دموعك غربة ألف عام هناك خلف الشمس، وأنا أنا الضعيفة أمام دموع طفل، وانحناءة ظهر عجوز، وتجاعيد وجه أمي حين تضحك، أنا القوية الصلبة من الخارج، الهشة من الداخل، كنت عاجزة وكأن لا حيلة لي، لكني رحلت تاركة عيوني وآثار طفولتي الدافئة وأقلامي.. رحلت.

رحلت حيث لم أجد نحن ولا أنا، ولا ياء التملك في نهاية كل حزن، إننا نعيش بصخب ونرحل بضجيج أكثر، ونترك خلفنا ضوضاء تملأ الكون، نحن لا نكتب الوصيات إننا نموت دونما تحضير مسبق، ألفنا الموت من كثرته، نحن نعيش الموت 60 دقيقة في الساعة، الموت جزء جميل لا قدرة لنا على العيش بدونه، تلك النهايات التي يرسمون لها ألف لوحة في معارض اليأس ويكتبون ألفًا عنها، حتى ملأت كتب النهايات رفوف بلادهم، إنها مرحلة أخيرة من مراحل حياتنا، لكنها المرحله الأولى والأخيره في حياتهم، أننا مليئون بكل شيء، نعيش الفرح بكل ما فينا والحزن نحيك له وجوهًا في الصيف نلبسها ليل الحنين في الشتاء علنا نشعر بالدفء.

في بلادي يكتب المرء الوجع حتى لو كان أمّي، نحن نرى ما لا يراه الغرب في الفرح وما لا يبصرونه ويسمعونه في الحزن، إنّنا نبالغ حتى في اللاشيء، مليئون بكل شيء؛ بالمعتقلين، والشهداء، والأقصى، والفرح، والظلم، والظلام، والموت، واليأس، والتجاعيد حتى في قلوبنا، ليس المهم أن يعيش المرء بهدوء ويرحل بهدوء، المهم أن يعيش مليئًا ويرحل مليئًا، لا يهم إن كان عابسًا أو فرحًا، إننا في نهاية المطاف لم نعش فارغين مجردين حتى من اللا شيء.
كيف يحبون بعضهم في هذه البلاد؟ أي طرق يتبعون؟ وهم يهجرون أماكن مليئة بالحب كأنهم قاصدين جعل ذاك الشلال يتيمًا وتلك العصفورة تنشد دون آذان صاغية؟

في الحب، يجب عليك أن تمشي صدفة قاصدًا لا شيء أبدًا، سوى قدرك وتلتفت يمينًا برهة، أو شمالًا لتلتقي بأحدهم، أن تضحك لعابر لا تعرف عنه سوى لون قميصه الذي يرتديه في تلك اللحظة، أن تذهب للمقهى مثلًا، أو تحت ظل شجرة، أو عند تلك الإشارة، أمام كنيسة ما، جامع أو مدرسة، أمام حائط يحمل الورد كل الورد، تحت عش طير جريح، تحت غيمة سوداء، تحت مطر في ليلة حالكة الظلام، تحت البدر أو عند ذاك النهر، شعرت أن لا وجود للقدر في بلاد كتلك، باردة وقاسية شديدة السواد حتى في أشد ساعات الصباح حرارة، هنا لا وجود للشغف، رغم أن كل شيء مهيأ للحب، كرسي يغطيه العشب الأخضر في كل مكان، ورود على الطرقات، نسمة هواء رقيقة ما أجملها! كأنها مرت وداعبت خدود كل سمراوات الأرض والشقراوات منهن، الجميلات صاحبات العيون الواسعة، في تلك البلاد الجميع مهيأ لمشهد رومنسي طال انتظار عرضه، حتى تعب الشجر وقوفًا، والورد ملّ نثر روائح العطر، تعب الليل يصارع وحيدًا، والصباح دون ابتسامة عاشقين والشوارع خالية من خطى مليئة بالشغف. 

هناك في بلادنا خلف الشمس والقضبان نحب بعضنا البعض، رغم أن كل المشاهد عاجزة، والكراسي لا وجود لها، عليك أن تحب من تحبه وقوفًا كما الأشجار، لا وجود للورد الأحمر، كل الورد يميل لونه إلى السواد من نيران الحروب وما خلفته كل مصانع الموت، رغم ذلك كله نحن نحب بشغف كبير، ولو وزع جزء من محبتنا على تلك البلاد الباردة لوجدتها دافئة ويكفيك دفئها ألف عام وعام.

 

اقرأ/ي أيضًا:

يُكتب في خانة الاسم: مجهول

رسمت يدًا من الحناء على دفها