14-مارس-2017

ملصق لـ معتصم خليل/ فلسطين

كانت واحدة من المرات القليلة التي أشعر بها بحالة مختلطة من مشاعر مختلفة ومتزاحمة، تحتشد دفعة واحدة، عقب سماعي نبأ استشهاد باسل الأعرج. حالة لا يمكن توصيفها بشكل دقيق، كما لا يمكن الانفكاك عنها بسهولة.
باسل الشهيد والمثقف النوعي والمشتبك، الذي يطرح باستشهاده نموذجًا من النماذج القليلة التي يتجسد فيها الاشتباك الفعلي الحقيقي والمباشر بين النظرية والممارسة العقلية من جهة، وبين الفعل والسلوك والحركة الثورية العنفوانية الحادة من جهة أخرى.

استشهاد باسل الأعرج تجسيد للاشتباك الحقيقي بين النظرية والممارسة العقلية

مضى تاركًا خلفَهُ مجموعةً دسمةً من الأسئلةِ التي حصل على أجوبتِه، وتركَ لنا مهمةَ البحثِ والعملِ والسعيِ خلفَ ما أتمَ الشهداءُ بناءهُ من حقائق. تركَ لنا خيبتنا وعجزِنا وتردينا المتزايد. على خطى غسان وناجي والآخرين أرجعَ باسل حقبةً ثوريةً بيضاء بريئة بشكلٍ فُجائيٍ، في مرحلة الانتكاس والعدميّة والتراجع وتصاعد الأصوات اللامنتمية.

اقرأ/ي أيضًا: 6 نشطاء معتقلون في سجن للسلطة يضربون عن الطعام

كيفَ استطاع أن يتجاوز هذه الفجوة العميقة ما بين الخيبة والرجاء، هذه المسافة المتسخة بالخمول الفاقد للمعني والمنكفئة على ذاتها؟ كيفَ استطعت يا باسل الشهداء والحقيقة أن تحتفظ بفلسطين بعيدًا عن نِزاعات المرحلة والِتواءات الساسة، وشيخوخة من فقدوا بصيرتهم؟ قل لي أين ذهبت بمفردات الثورة، والشهادة، والوطن، والأرض، والتاريخ، وفلسطين، والتضحية، والإخلاص، والعنفوان، والقتال إلى آخر طلقة وكلمة، بعيدًا عن استهلاك الخطابات الموسميَة واستخدامات الأيديولوجية؟

إنها الحالة الأكثر نقاءً ووضوحًا واتصالًا بما تقولهُ الأرض ويقولهُ التاريخ والدم، إنها الحالة الفلسطينية الفريدة الأولى التي لا تغيب مها غُيبّت، ولا تموت وإن حققوا أسباب موتها.

كم حيرتني وصية باسل القصيرة والمختصرة، وكم أشعلت رغبة السؤال المتبوعة بمزيد من الأسئلة؛ "أنا الآن أسير إلى حتفي راضيًا مقتنعًا وجدت أجوبتي". ما الذي حصلت عليه من أجوبة يا باسل؟ وكيف حصلت عليها؟ يا لحماقتنا وعجزنا وخوفنا وموتنا الفاقد للمعنى، والأكثر اعتيادًا من العادة!

يا الله كم قذفتَ حجارةً في مياهنا الراكدة والمتسخة بالخطايا والخمول! وكم نشرت حقيقتنا على أحبال الفضيحة!

كم قذفتَ حجارةً في مياهنا الراكدة والمتسخة بالخطايا والخمول يا باسل الأعرج!

"الدكتور" كما يحبُ أصدقاؤه أن ينادوه، و"الناشط الثوري" أحد أهم منظري المقاومة؛ عَرِفَ كما يَعرفُ الأنبياء أن الدعوة إلى الثورة تبدأ بالعمل بها، وأن توثيق محطات تاريخية من مراحل الصراع العربي-الإسرائيلي الممتد هو في حقيقته رغبة الانخراط في الحاضر وما يفرضه من معطيات وحقائق جديدة.

اقرأ/ي أيضًا: الانتفاضة حدثت.. أغلقوا باب الردة

إنه المثقف الذي اتحد مع ما يؤمن به. يدعو له ويدافع عنه حتى صار جزءًا منه، أو لنقل كله، إن شئت. هو فكرة التجسيد الكامل للمثقف المشتبك. الكلمة والسلاح كتلة واحدة متصلة ولا يمكن تفكيكها. إنه المثقف الذي لا يمكن أن يتقاعد أو يركن إلى مكوث النظرية حيثُ تطول المدة أو تَقصُر، لأن أدوات الإثبات تزاحم مقولات التنظير، وحين يرحل يتجدد.

في كلِ خطابٍ ثوري، وكلِ حقيقةٍ تاريخية، وفي كلِ توثيق ومتابعة لسيرورة الأحداث المتلاحقة.. سيبقى باسل الأعرج واحدة من مفردات فلسطين الحديثة الناهضة رغم التعثرات، والمؤمنة بذاتها رغم تعالي أصوات الكفر والإنكار، وفي كل مسام الأرض التي تجري فيها دماء الشهداء الذين نعرفهم، والذين لا نعرفهم، سيجري دم باسل الأعرج كي يبقى حاضرًا ومشعًا كشهادة البراءة وصورة البقاء.