01-مارس-2023
لوحة لـ هيثم صايغ/ سوريا

لوحة لـ هيثم صايغ/ سوريا

تطاردنا نبوءات الفلكي الهولندي فرانك هوغربيتس طيلة النهار، قبل أن تحيل ليالينا إلى كوابيس راجفة مهتزة. ولقد صار الرجل الغامض منافسًا، في الرهبة، للأرض الغاضبة المضطربة، حتى بتنا لا نميز بين الزلازل اليومية، فلا نعرف أيها يحدث من حركة الأرض وأيها يأتي استجابة لنبوءاته.

آخر ما أنذرنا به خليفة نوستراداموس هو زلزال كبير مدمر سيقع في يوم ما من الأسبوع القادم، ولكم أن تتخيلوا أي رعب يحدثه رجل يقول إن موعد القيامة هو السابع من هذا الشهر، وإن موتنا، الذي طالما تساءلنا عن شكله ووقته، سيأتي بعد أيام معدودة، وسيكون بفعل رجفة أرضية عظيمة وعلى شكل قطعة كبيرة من سقف تسقط فوق رؤوسنا لتهشم حياتنا الهشة أصلًا.

للأسف فإن وسائل الإعلام تلعب الدور الأكبر في حفلة الذعر هذه، وإذا كان من واجبها أن تنقل لنا أخبار الزلازل وتواكب توابعها وتبعاتها، فإن من المستهجن أن تتفرغ لملاحقة الفلكي الهولندي لتنقل لنا بأمانة وسواسية كل شطحاته وسيناريوهاته القيامية

لا وقت لدينا لمناقشة فرانك هوغربيتس، فإنذاراته المتلاحقة تتناوب مع زلازل الأناضول الغزيرة على شل عقولنا وإنهاك أرواحنا الضائعة.

وللأسف فإن وسائل الإعلام تلعب الدور الأكبر في حفلة الذعر هذه، وإذا كان من واجبها أن تنقل لنا أخبار الزلازل وتواكب توابعها وتبعاتها، فإن من المستهجن أن تتفرغ لملاحقة الفلكي الهولندي لتنقل لنا بأمانة وسواسية كل شطحاته وسيناريوهاته القيامية.. وكذلك فإذا كان هو قد استعذب النجومية جراء تخويف الناس وتمزيق قلوبهم، فمن غير اللائق أن يتواطأ الإعلاميون معه لإشباع هذه النزوة الشاذة، فيبيعونه جمهورهم لقاء ثمن بخس: رواج عاجل، طارئ، سريع الزوال..

في جلسة عمل، منذ أيام، شرحت لنا مسؤولة الـ"سوشال ميديا" في مؤسسة إعلامية مفهومها لعملها. قالت إن "الترند" هو المفردة المقدسة الوحيدة في وظيفتها وهو الغاية التي من أجلها يهون كل شيء وتغدو كل وسيلة مشروعة. وأضافت، بعد أن لفت ساقًا على ساق، "لنكن صريحين ولا نكذب على أنفسنا وعلى بعضنا البعض فنحن حتى في الزلازل لا نذهب إلى هناك من أجل إنقاذ الضحايا ولا من أجل مواساة المفجوعين، بل نذهب من أجل الترند فقط".

بعد أن خرجت بقينا، أنا واثنين من جيل الصحافة الورقية، مذهولين مبلبلين، وسرعان ما رحنا نضرب كفًا بكف مواسين أنفسنا بالقول: "هذا هو الإعلام الجديد الذي يريدونه بديلًا لصحافتنا المغدورة"!

لكن حسًا مفاجئًا بالنزاهة استيقظ لدى أحدنا، فطلب أن نطلع على الموقع الالكتروني لجريدة يومية "كبيرة". كان العنوان الرئيس عن "زلزال نهاية العالم"، وكانت صورة الفلكي الهولندي تتصدر الصفحة. فهمنا رسالة الصديق، لكنه مع ذلك ألح على الانتقال إلى الموقع الالكتروني لفضائية عربية مرموقة. كانت عناوينها كالتالي:

"الفلكي الهولندي يضرب مجددًا: زلزال مدمر آخر قريبًا؛ علماء يتحدثون عن زلزال نهاية العالم.. موعده ومكانه؛ مركز عالمي لرصد الزلازل: لا نهاية قريبة لزلازل الأناضول؛ شاهدوا رعب اللحظات الأولى لزلزال سوريا وتركيا؛ طفل يبكي هلعًا لرؤية اهتزاز سيارة بفعل الزلزال (شاهدوا الفيديو)...".

للمرة الثانية يفشل الإعلام التقليدي (مع استثناءات قليلة) في الاختبار. كانت المناسبة السابقة هي جائحة كورونا. يومها فعل هذا الإعلام ما يفعله اليوم: حاول مجاراة فيسبوك وتويتر وسواهما.. ركض وراء "الـترند" وأطلق العناوين الخلبية واكتفى بالكبسولات السريعة والكليشات الفارغة.. فبدا، كما يبدو الآن، مثل شيخ وقور أراد منافسة مراهق على كسب ود مراهقة، فلبس الشورت المقطّع والقميص المشجّر وملأ جسده بالوشوم الحمقاء وراح يفرقع بالعلكة.. بالطبع لم يكسب ود الفتاة الشابة وفوق ذلك خسر وقاره.

نسي القائمون على وسائل الإعلام حقيقة بسيطة مفادها أن الناس في زمن الاضطراب والخوف يكفون عن الركض وراء الإثارة الصاخبة، إذ إن حياتهم وقتئذ لا تنقصها إثارة ولا صخب بل ينقصها هدوء واسترخاء. وهكذا فغريزة البقاء لديهم تدفعهم إلى محاولة الفهم الذي ربما يهدئ من روعهم..

وسائل الإعلام لم تسع إلى إفهامنا شيئًا يخفف من مخاوفنا، أو على الأقل يضعها في حدودها الطبيعية، بل، على العكس من ذلك، تواطأت هي والزلازل والفلكي الهولندي على تحطيم أعصابنا.