08-يوليو-2020

جيش النظام السوري في إحدى معاركه

عندما قرّر حافظ الأسد الاستعانة بمؤسسة الجيش لتأمين سيطرته المطلقة على البلاد والعباد، ومن ثم توظيفها فيما بعد لتأسيس سلالة عائلية خاصة به وبأبنائه من بعده؛ فإنه كان يؤسس لتغيير الطبيعة التضامنية لتلك المؤسسة المتآخية في سبيل الدفاع عن الوطن، إلى أخوية تضامنية قائمة على المحبة في الأسد نفسه.

إن تحول جيش الأسد إلى أخوية تضامنية في حب القائد لا ينفي عنه التراتبية، ذلك أنها صفة جوهرية من صفات الجيش العقائدي

بتحويل الجيش من مؤسسة عامة ذات انتماء وطني عام إلى جيش عقائدي ذي انتماء أهلي (طائفي) ضيق، له صفة الجيش الاحتلالي من جهة، والناهب من جهة أخرى، أصبح المنتسب لصفوفه يتعرف على نفسه بوصفه عضوًا في جمعية أخوية متضامنة في محبة الرئيس، الأمر الذي ولّد لديه شعورًا بالتفوق والتمايز عن بقية أعضاء المحيط الاجتماعي الخاضع للسيطرة، جريًا على معنى الحكمة القائلة: "بأن حارس السلطان سلطان مثله"، يضرب بعصا سلطته تارة، لإحساسه العفوي بأن الأداة القامعة غالبًا ما تتشرب صفات صاحبها القامع، فتكتسب صفة سيدها في الإحساس بالقوة العارمة والرفعة الاجتماعية، فيما يشعر تارة أخرى بالأمان الاجتماعي لمعرفته المسبقة بقدرته على توظيف سلطته الوظيفية كحارس سلطان لصالحه الشخصي، عبر نهب ما يأتي بين يده، سواء كان ذلك عبر سلب المخصصات المقدرة لقطعته العسكرية، أو سلب الموارد المخصصة للمشاريع الإنتاجية المكلف بإدارتها، أو إذا لم يستطع فعلى أقل تقدير، الاستثمار في استغلال مجندي الخدمة الإلزامية الخاضعين لسلطته.

اقرأ/ي أيضًا: الجيش في سوريا.. من عقائدية المؤسسة إلى مليشيا العائلة وطائفيتها

إن تحول جيش الأسد إلى أخوية تضامنية في حب القائد لا ينفي عنه التراتبية، ذلك أنها صفة جوهرية من صفات الجيش العقائدي أو "الانكشاري"، المؤسس على مبدأ حماية سلطة الزعيم الأوحد، مقابل التمتع بحصة من الغنيمة المتأتية من سلب فائض إنتاج المجتمع المقموع. فالتراتبية العسكرية وإن كانت تقوم على مبدأ التفاوت بين حصص الغنيمة، بين من هم في أعلى هرم الجيش العقائدي وبين من هم في أدناه، فإنها لا تعني بأية حالة من الأحوال حرمان من هم في أسفل الهرم العقائدي من حصتهم المتواضعة في الغنيمة والقوة، وإلا كفت الأخوية العسكرية من أن تكون أخوية ومن ثم تضامنية فاعلة.

في بداية إطلاق الأسد الابن لحربه ضد الشعب السوري الراغب بالتحرر من السيطرة العبودية لآل بيته، وجد المنتسبون إلى أخوية الجندية (مجندين، صف ضباط ، ضباط) الفرصة الكبرى لإثبات فعالية تلك الرابطة في حماية سلطة الرئيس المنتهكة بلسان المحتجين السلميين، ظنًّا منهم أن استعادة القداسة لتلك السلطة لا يتعدى الفتك بمجموع الأفراد العزل، الذين لا حول لهم ولا قوة. الأمر الذي سيعزز صدقية التعويل عليهم، في إنقاذ السلطة الفردية لبشار الأسد من مآزقها الوجودية الكبرى.

مع طول المواجهة العسكرية بين أفراد تلك الأخوية الحربية والشعب السوري المنتفض، بدأت قيم تلك الأخوية تنفرط، خاصة مع إحساس الجنود وصف الضباط بعدم حرص الضباط الأعلى على حياتهم، كما عدم اهتمامهم بتوفير الحد الأدنى من المقاومات اللوجستية لصمودهم، كتأمين الطعام والرعاية الصحية في ظروف شرسة، أقل ما يقال عنها أنها مواجهة قاسية مع الموت. ناهيك عن إحساسهم المضني بأن القيادة العليا قد تخلت عنهم عقب تعرضهم لخطر الإعاقة الدائمة، عبر إلقاء تبعة علاجهم على عوائلهم المفقرة. الأمر الذي فجّر لديهم كل الرغبات الانتقامية، بالكشف عن حالات التمزق العاطفي التي آلات إليها حالة الأخوة الأسدية، التي أثبتت الوقائع أنها لم تكن أكثر من تجمع لصوصي لاقتسام الغنائم.

وبدلًا من الفيديوهات التي كان يطل فيها أعضاء الأخوية للإشادة ببطولات أعضاء أخويتهم المتحابة، صرنا نشاهد بعض الفيديوهات التي تعرض إحباط أعضاء تلك الأخويات من الاستمرار في تكليفهم بمهمة الأعمال القتالية سنوات وسنوات، وكأن لا جنود غيرهم في هذا العالم الأخوي الكبير. هذا ناهيك عن تطرق بعض صفحات التواصل الاجتماعي الموالية إلى تواطئ القيادات العسكرية العليا في دفع مئات الجنود في مطار الجرّاح العسكري كقرابين إلى سكاكين داعش، لا لشيء سوى لتوظيفها في خدمة معركتها الإعلامية، التي كانت تصر على ربط كل عمل مقاوم لدولة الأسد بالإرهاب الداعشي.

لا يمكن فهم نوعية التحولات الكبرى في قيم الأخوة الأسدية، من قيم التضامن ذات البعد التكافلي، إلى قيم التنازع الفردي ذات البعد الكلبي، سوى بالنظر إلى التحول الذي طرأ على طبيعة الموارد المتوفرة

نجحت الصورة الفوتوغرافية المسربة من أحد أعضاء الأخوية الأسدية، لنوعية الأطعمة الفاسدة التي يتلقاها الجنود المكلفين بخوض الأعمال القتالية، في الكشف عن مقدار الغضب المتراكم داخل نفوس أعضاء أخوية القائد، التي صار كل واحد منهم إزاء الآخر بمثابة الآثم الشرير، الذي لم يعد يبالي بالتسلق على ظهر غيره ما دام ذلك يشكل مدخلًا لنجاته، دون أن يعير انتباها لمبدأ التضامن الأخوي الذي قامت عليه فكرة الجيش العقائدي. فما سر هذا التحول الكارثي الذي أخذ يعصف ببنية الأخوية الأسدية، التي كان فيها عضو الأخوية الأصغر يكن في داخله كل مشاعر الاحترام والتقدير لعضوها الأكبر؟ فإذا به يتحول بين عشية وضحاها في نظره إلى مرتبة اللص الآبق الحقير الذي لا يحلل ولا يحرّم، كما جاء على لسان أحد أعضاء الأخوية في معرض تفجعه على المصير الذي آلت له قيم تلك الجماعة المتحابة في الرئيس "نامي ياعيني نامي، كل حرامي بحرامي... ما حدا خايف من الله، ولا من يوم القيامة".

اقرأ/ي أيضًا: الجيش الأسدي بوصفه جيش احتلال

لا يمكن فهم نوعية التحولات الكبرى في قيم الأخوة الأسدية، من قيم التضامن ذات البعد التكافلي، إلى قيم التنازع الفردي ذات البعد الكلبي، سوى بالنظر إلى التحول الذي طرأ على طبيعة الموارد المتوفرة، القابلة للاقتسام كغنيمة، التي كانت وفرتها المتأتية من نهب المجتمع الراضخ، تغطي على حقيقة جوهرها الأخلاقي القائم على الأنانية والاستئثار والعدوان.

 

اقرأ/ي أيضًا:

العسكرية في سوريا.. فيلم رعب طويل