21-يونيو-2019

لوحة فسيفسائية لحافظ الأسد (أ.ف.ب/ Getty)

مات حافظ الأسد مُفلتًا من العقاب، في مقابل المصير المحتوم الذي يؤول إليه الدكتاتور العربي عادةً، حتى قبل فصول الربيع العربي، فأنور السادات مات اغتيالًا، وصدّام حسين معدومًا، ناهيك عن مصائر تراجيدية كالتي ألت إليها العائلة الملكية في العراق عام 1958، واغتيال حسني الزعيم، وغيرها الكثير.

يكاد حافظ الأسد أن يكون مجرد صورة لا شخصًا من لحم ودم. وتلك هي اللعبة التي استطاع أن يتقنها باحتراف

يكاد حافظ الأسد أن يكون مجرد صورة لا شخصًا من لحم ودم. تلك لعبته التي أتقنها باحترافٍ، ولا يمكن قراءة ذلك إلا بكونه أمضى وقته منهمكًا في متابعة شؤون حكمه بنفسه. أي أنه أعطى السوريين صورته وكرّس شخصه لمتابعة الشاردة والواردة، على أن ذلك لم يمنع من ظهوراتٍ قليلةٍ في مناسبات وطنية محدّدة، يلوّح فيها من نافذة قصره للجماهير الهادرة التي جُمِعت وأُحضرت من المدارس والمصانع والمؤسسات، أو أنْ يلقي خطبةٍ تجري خلالها عملية إعداد للمدرجات لا لتكون أمكنة للجمهور فقط، بل لتشكّل صورًا وديكورًا يُكمل حضوره الطقسيّ النادر.

اقرأ/ي أيضًا: حافظ الأسد.. ذاكرة الرعب

لم نعرف عنه أو عن أولاده فضائح جنسية، في الوقت الذي امتلأت الدنيا بأخبار الانتهاكات المجونية للقذافي وأولاد صدام حسين وأمراء مملكة آل سعود. وحتى حين سرت بين الناس رواياتٌ شفهيةٌ عن فظائع ارتكبها أفراد من آل الأسد لديهم أمزجة اغتصابية أو فاحشة، نُسِبت إلى أولاد إخوته، والغريب أنه لم يُوقف ذلك، بل جعله يبدو نوعًا من تظهير صورة أولاده الطهرانية.

في هذا السياق، نتذكّر في تسعينات القرن الماضي، الفترة التي بُدِئ فيها في الترويج لباسل على المستوى الوطنيّ، انتشرت شائعات حول نيّته الزواج من الأميرة هيا، ابنة الحسين ملك الأردن، نظرًا لغرام كلٍّ منهما باقتناء الخيول ورياضية الفروسية. لا تخلو هذه الشائعة من دلالاتٍ عديدة، لا سيما أنها زامنت فترات فضائح الشبيحة، الاسم الذي أُطلق أول الأمر على أولاد الإخوة، ما رسمَ باسل صورةً مثاليةً بالقياس إلى أبناء عمومته، من حيث كونه شابًا أخلاقيًّا، ملتزمًا بقيم المجتمع، مع بهارات رومانسية لقصة حبّ نمت في أروقة القصور ومضامير الخيل.

يتصل برود الجبهة الجنسية الأسدية ببرود الأسد الأب نفسه، فالمنشغلون مثله بتأسيس إمبراطورية عائلية، وسلالة حكم وراثية، لا وقت لديهم للغرائز أو العواطف. وكل ما يتصل بذلك مستعاضٌ عنه في الإمساك الرمزي بجسد السلطة وحسب.

بين كثير مما يقوله علم النفس عن الباردين جنسيًّا ثمة آراء عن غياب العواطف، ليس تجاه الجنس الآخر وحسب، بل تجاه الطعام كذلك، كحال الرهبان الذين يحوّلون طاقتهم نحو الروحيّ، وفي وضعية الدكتاتور الروحيّ والفكريّ مقتصر على هالة الحكم.

قلما ظهر حافظ الأسد مبتسمًا، ربما في لوحات الغرافيتي الموجّهة للأطفال في باحات المدارس لتطويبه أبًا. تقول ذلك أيضًا الصورة الرسمية الوحيدة التي تجمعه مع أفراد أسرته، حيث يتوسطهم كما يليق بأب. 

وخلال عقود من انتشار هذه الصورة، وبيعها في الأكشاك التي يديرها عناصر من المخابرات على مختلف أرصفة المدن، ندرك أننا لم نعرف عن هذه العائلة شيئًا سوى روايات شفهية عن خصومة باسل وصهر العائلة آصف شوكت الذي قضى اغتيالًا ضمن "خلية الأزمة"، على خلفية رفضه لزواج هذا الرجل من أخته بشرى.

زوجته أنيسة مخلوف ظلّت صورة. كأنها لم تغادر جلستها في الصورة الشهيرة، ومرات ظهورها القليلة ظهرت فيها بصحبة زوجها.

على المقلب البعثيّ الآخر، شارك صدّام حسين الأسدَ عشق الصور والتماثيل الشخصية، وفي حين يبدو أن الثاني اكتفى بها، راح الأول يصوّر نفسه في الصغيرة والكبيرة، في الاجتماعات الرسمية والعائلية، في الجولات بين المدن العراقيّة، على جبهات الحرب مع إيران، في عيد ميلاده أيضًا.

منطق صدّام الاستعراضي الذي بلغ حدودًا هوسيّة حالَ دون ما تتطلّبه الأيقونة من انسحاب كامل من الواقع إلى الصورة، وهو ما فهمه حافظ الأسد عميقًا، واستطاع لجم نفسه بسبب سيطرته التامة على عواطفه، ولعل هذا ما جعله مثيرًا مثل لغزٍ، ففي صورة قليلة التداول ظهرتْ على مكتبه علبةُ سجائر وطنية الصنع من نوع "الحمراء الطويلة". شغلت الصورة خيال الناس، وكثيرًا ما سمعنا عدم تصديق، أو شاهدنا اندهاشًا كاملًا، من كون الرئيس يمارس فعلًا عاديًّا مثل التدخين، في حين أن سيجار صدام، والسيجار ومدخنوه نادرون، فقد رونقه من فرط الحضور.

في رواية "رقصة القبور" للكاتب السوري مصطفى خليفة، يظهر حافظ الأسد باسم المارشال مخادعًا وكاذبًا وجبانًا، يكذب على الجميع، خصوصًا طائفته التي يستعملها لتوطيد أركان حكمه. وعلى الرغم من أن القارئ سيعتبر الشخصية نوعًا من الاقتراح السردي، إلا أن الكاتب مصيب في خياره ذلك أن الباردين عاطفيًّا وجنسيًّا، وهو منهم كما أسلفنا، بعيدون عن الآخرين، متمركزون على الذات، وهل هناك ما يثبت ذلك أكثر من هوسه الأيقونيّ؟

حافظ الأسد بارد، في عيونه حذر، في هدوئه الجليديّ ترقّب، ولهذا هو مراوغ ومناور كما وصفته رواية خليفة. وإن لم نمتلك وثائق بخصوص إثبات ذلك سوى ما تركه السياسيون الذين التقوه، فلنا في أسلوب إدارته للسياسة الخارجية أوضح دليل، ألم تقم هذه السياسة على المناورة واللعب على المحاور؟ ألم يلعب على تناقضات المعسكرين الشرقيّ والغربيّ قبل انهيار الاتحاد السوفييتي؟ ألم يطبق الأمر نفسه في التعاطي مع الحرب الأهلية اللبنانية؟

بهذا البرود تخلّص من رفاقه في الحزب، خلال انقلابه المسمّى حركةً تصحيحية، ولاحقًا من شقيقه رفعت. لم يقتلهم كما فعل صدّام مفتتحًا أيام حكمه الأولى بمجزرة إعدامات أمرّ بها وهو يبكي، مترنحًا في عاطفته الحارة كالسكران بين أقصى حدّي القسوة والرقة. الأسد البارد والحذر نفى وسجن ليراقب مستمتعًا بجعل العقاب عذابًا لا ينتهي.

منطق صدّام الاستعراضي الذي بلغ حدودًا هوسيّة حالَ دون ما تتطلّبه الأيقونة من انسحاب كامل من الواقع إلى الصورة

تورد سلسلة "السلالة الخطرة" (A Dangerous Dynasty) موقفًا كاشفًا، فأوّل ما يخرج من فمه عندما يأتي من يُخبره بأن ابنه باسل مات، سؤالٌ غير متوقّع: "أهو انقلاب؟". أنّ البلد في قبضته الحديدية وهو لا يزال يشكّ باحتمالية الانقلاب تأكيد على أن ذا الحرارة العاطفيّة لن يخطر على باله الأمر أصلًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"لا" لحافظ الأسد.. لا للطعنة الأعمق في ظهر البلاد

عندما مات حافظ الأسد!