23-سبتمبر-2020

البلدة القديمة من مدينة الخليل (Getty)

انتهجت اسرائيل التي قامت على حوالي 78% من مساحة فلسطين الكلية عام 1948، ثم احتلتها بالكامل أبان حرب عام 1967، سياسة لا زالت مستمرة حتى اليوم تتمثل بتدمير أو مصادرة المواقع التراثية الفلسطينية وذلك ضمن سعيها لتهويد الأرض العربية، حيث إن سياسة الإحلال التي انتهجتها منذ بداياتها لم تقتصر على السكان فحسب، وإنما شملت الثقافة والهوية وذلك في محاولة محوٍ قصري لتراكمات التاريخ المادية التي تربط الفلسطيني بأرضه، أي القضاء على إحدى دلالات التفاعل بين الإنسان والمكان عبر الزمن.

منذ احتلال إسرائيل لكامل فلسطين عام 1967، درجت اليونسكو بموجب قراراتها، على رفض الأعمال التي تقوم بها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المُحتلة

يقع ضمن هذا النهج أيضًا الترويج دوليًا لما أبقت عليه من مواقع تراثية فلسطينية داخل أراضي فلسطين المُحتلة عام 1948 كأنه جزء أصيل من تاريخها، واللافت أن الجزء الأخير بالذات لم ترفضه اليونسكو بل وثبتته، فكيف إذًا عزّزت بآلياتها الحضور الإسرائيلي الثقافي دوليًا باستخدام التراث الثقافي المادي الفلسطيني؟

اليونسكو والتراث الثقافي المادي للشعوب

تُعتبر منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) التي تم تأسيسها عام 1945 إحدى وكالات الأمم المتحدة المتخصصة، وتتمثل رسالتها بإرساء السلام من خلال التعاون الدولي في مجال التربية والعلوم والثقافة، حيث تضطلع بمهامٍ عديدة منها: حماية وصون التراث العالمي الثقافي والطبيعي للشعوب أمام الأخطار العديدة التي تُهدد وجوده وبقاءه، وذلك بموجب معاهدات دولية ناظمة لهذا الموضوع. وفي ظل تعدد التعريفات ذات العلاقة بماهية التراث الثقافي للشعوب يمكن القول بأنه "مظاهر تُبيِّن بشكل ملموس وغير ملموس أساليب عيش [الشعوب الأصلية] وإنجازاتها وإبداعها، وهي تعبير عن تقريرها لمصيرها وعن علاقاتها الروحية والمادية بأراضيها وأقاليمها ومواردها" (1) هذا ويشمل التراث الذي تسعى اليونسكو إلى صونه: التراث المادي وغير المادي، والتراث المغمور بالمياه والتراث الطبيعي.

اقرأ/ي أيضًا: مواجهة إسرائيل بين الولاء والبراء الإنساني

وما يهمنا في هذا السياق، التراث الثقافي المادي للشعوب ودور اليونسكو في حمايته بموجب معاهدات عديدة منها: حماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي لعام 1972، بهدف حماية بعض المواقع ذات القيمة العالمية الاستثنائية بشكل خاص من خلال إدراجها على قوائم التراث العالمي، باعتبارها إحدى وسائل الحماية الجماعية للتراث الثقافي؛ بناء على جَرد ترفعه الدول الأطراف لممتلكات التراث الثقافي والطبيعي الواقعة في إقليمها إلى لجنة التراث العالمي أو من خلال ادراجها على قوائم التراث العالمي المُعرض للخطر والتي تتهددها أخطار جسيمة منها النزاع المسلح أو التهديد به، وذلك بموجب نص المادة 11 منها، بهدف خلق حالة من التعاون الدولي وتقديم العون في الحالات التي تتطلب ذلك.

اليونسكو ودولة فلسطين

منذ احتلال إسرائيل لكامل فلسطين عام 1967، أي أراضي قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، درجت اليونسكو بموجب قراراتها على رفض الأعمال التي تقوم بها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المُحتلة التي تمس المواقع التراثية الفلسطينية لا سيما في القدس الشرقية ومن هذه القرارات: القرار 3.343 عام 1968 والذي وجه نداءً دوليًا مُلحًا لدعوة إسرائيل إلى المحافظة على الممتلكات الثقافية، خصوصًا في البلدة القديمة والامتناع عن القيام بأية عمليات وحفريات أثرية أو نقل هذه الممتلكات أو تغيير معالمها أو ميزاتها الثقافية والتجارية (2)، وكذلك القرار رقم 3.422 عام 1972 والذي شجب استمرار قيام إسرائيل بأعمال التنقيب عن الآثار في مدينة القدس، وطالبها بالامتناع عن تغيير معالم المدينة (3).

في تطور مُهم عام 2011، قرّر المؤتمر العام لليونسكو قبول دولة فلسطين عضوًا كاملًا في المنظمة بناء على توصية المجلس التنفيذي لليونسكو، وكانت فلسطين قد تقدمت منذ العام 1989 بطلب للانضمام إلى اليونسكو وتكرر تقديمه في كل دورة من دورات المؤتمر العام لليونسكو (4)، وقد انضمت دولة فلسطين لاحقًا إلى العديد من الاتفاقيات الدولية ذات العلاقة بالتراث العالمي منها: اتفاقية بشأن حماية التراث الثقافي والطبيعي واتفاقية بشأن حماية التراث غير المادي (5). كما تمكنت بالفعل من إدراج ثلاثة مواقع على قائمة التراث العالمي هي: كنيسة المهد وطريق الحجاج في مدينة بيت لحم، بلدة بتير، المدينة القديمة في الخليل (بما فيها الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح) (6).

في تطور مُهم عام 2011، قرّر المؤتمر العام لليونسكو قبول دولة فلسطين عضوًا كاملًا في المنظمة بناء على توصية المجلس التنفيذي لليونسكو

أما مدينة القدس القديمة بأسوارها فقد أُدرجت على قائمة التراث العالمي عام 1981 ومن ثم قائمة التراث العالمي المُعرضة للخطر بناء على طلب المملكة الأردنية عام 1982 (7)، وذلك على ضوء سياسات الاحتلال الإسرائيلي في المدينة والتي تنوعت ما بين الهدم والمُصادرة والحفريات وبالنتيجة المساس بمعالمها الثقافية التاريخية.

اقرأ/ي أيضًا: صنّاع النكبة الفلسطينيون

اليونسكو ومواقع التراث المادي الموجود داخل أراضي فلسطين المُحتلة عام 1948

لدى تتبع القرارات الصادرة عن اليونسكو بل وحتى القوائم المرفوعة من دولة فلسطين والأدبيات ذات العلاقة، فإنه من المُثير للاهتمام أن هذه جميعًا تُركز على حماية المواقع التراثية الموجودة داخل حدود الأراضي الفلسطينية المُحتلة عام 1967، أي الضفة الغربية بما فيها "القدس الشرقية" وقطاع غزة فقط، دون أن تمتد المُطالبة إلى ما أبعد ذلك جغرافيًا أي فلسطين المُحتلة عام 1948.

وبالاطلاع على قائمة المواقع التراثية التي تخص إسرائيل المنشورة على موقع اليونسكو يُلاحظ إدراج تسعة مواقع تراث فلسطينية –مادية وطبيعية- على قائمة إسرائيل منها (8): البلدة القديمة في مدينة عكا، المُدرجة عام 2001، وهي إحدى أقدم وأهم المُدن الفلسطينية الساحلية التاريخية، والتي تم تأسيسها من قبل الكنعانيين والتي لا زال يقطنها فلسطينيون حتى يومنا هذا، وهنالك القائمة المؤقتة لإسرائيل التي تضم ثمانية عشر موقعًا منها مدينة القدس (9).

تشكّل قرارات اليونسكو المؤيدة لإدراج ما هو فلسطيني على قائمة اسرائيل المذكورة، ليس عملًا قانونيًا وحسب، بل سياسيًا أيضًا، فالتراث الثقافي للشعب الفلسطيني وحدة واحدة لا تتجزأ، باعتباره أحد أوجه علاقاته المادية والروحية بوطنه التاريخي، وتثبيتًا لحقه المشروع في تقرير المصير على ضوء ما تضمنه إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصيلة لعام2007 فيما يخص بند الثقافة، فمثلًا كان بإمكان اليونسكو أن تتخذ قرارات على غرار تلك التي رفضت بموجبها إدراج المواقع التراثية الواقعة في الأراضي الفلسطينية المُحتلة عام 1967 على قائمة إسرائيل كما فعلت تجاه مدينة القدس، أو إصدار قرارات بتثبيتها كمواقع فلسطينية كالحرم الإبراهيمي في البلدة القديمة في الخليل على سبيل المثال، بل والذهاب إلى أكثر من ذلك بمطالبة إسرائيل، باعتبارها دولة احتلال، تطبيق القانون الدولي الإنساني المُطبق في حالات النزاعات المسلحة مثل اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 واتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح أو الاحتلال، بهدف حماية المواقع الفلسطينية الموجودة في أراضي فلسطين المُحتلة عام 1948، وهو ما لم يحدث.

تشكّل قرارات اليونسكو المؤيدة لإدراج ما هو فلسطيني على قائمة اسرائيل، ليس عملًا قانونيًا وحسب، بل سياسيًا أيضًا، فالتراث الثقافي للشعب الفلسطيني وحدة واحدة لا تتجزأ

اقرأ/ي أيضًا: مفاهيم مُربكة في الحالة الفلسطينية

وعليه، ألا يمكن اعتبار هذا النهج الذي يُعالج جانبًا ثقافيًا مُتسقًا مع قرارات منظومة الأمم المتحدة التي تُكرس حق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة على حدود الأراضي الفلسطينية المُحتلة لعام 1967 وحصر حقه بممارسة تقرير المصير –الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي- ضمن هذه الحدود الجغرافية فقط واعتبار ما سوى ذلك إسرائيليًا؟

 

هوامش:

1- تعزيز وحماية حقوق الشعوب الأصلية فيما يتصل بتراثها الثقافي، مجلس حقوق الإنسان، الجمعية العامة، الأمم المتحدة، الدورة الثلاثون، 2015، 6.

2- Records of the General Conference, 15th session, UNESCO, Paris, 1969, 53.

3- Records of the General Conference, 17th session, UNESCO, Paris, 1972, 62.

4- Admission of Palestine as a Member of UNESCO, Records of the General Conference, 36th session, UNESCO, Paris, 2012,

  79.

5- قائمة بالاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها دولة فلسطين حتى تاريخ 1 آب 2018. الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية والمغتربين لدولة فلسطين. منشور على:

http://www.mofa.pna.ps/en-us/mediaoffice/politicalstatement/pgrid/5918/pageid/1/artmid/5849/articleid/1096 (استرجع بتاريخ 6.9.2020)

6- Palestine Heritage List. World Heritage List. UNESCO. Available on:

https://whc.unesco.org/en/list/&order=country#alphaP (last checked on 6.9.2020).

7- Nomination of the Old City of Jerusalem and its Walls to the list of World Heritage in danger. Available on:

https://whc.unesco.org/en/decisions/5284 (last checked on 11.9.2020).

8- للإطلاع على المواقع المُدرجة على قائمة التراث الثقافي العالمي التي تخص دولة اسرائيل انظر موقع اليونسكو على الرابط التالي:

http://whc.unesco.org/en/statesparties/il (استرجع بتاريخ 11.9.2020)

9- القائمة المؤقتة أو الأولية: تقوم الدول بجرد مواقع أو ممتلكات التراث الموجودة داخل اقليمها وتعتزم ترشيحها كخطوة ضرورية لإدراجها على قائمة التراث العالمي. انظر القائمة المؤقتة الخاصة باسرائيل:

https://whc.unesco.org/en/statesparties/il (استرجع بتاريخ 11.9.2020)