15-مايو-2020

الذكرى 72 للنكبة

من صفات اللغات الديناميكية أنها قابلة للتطوير لتواكب التغيرات الحضارية، فوظيفة اللغة ليست تخاطبية تعبيرية فحسب وإنما لها أيضًا وظائف أخرى منها الفكرية. ولفلسطين مع اللغة علاقة خاصة مُغايرة، تخطت في حالتها من تطوير الكائن إلى اختراع غير الكائن، وإسقاط الأول من الخرائط والخطاب السياسي والقرارات الأممية، وذلك باستحداث مفاهيم جديدة ساهمت بشكل أو بآخر باختلاق فكر أو وعي جديد، لتكون اللغة ديناميكة فيما يتعلق بفلسطين لكن بصيّغٍ أو مفاهيم مُتفرّدة أبعد ما تُوصف بأنها عابرة.

اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالدولة اليهودية تحت مُسمى دولة اسرائيل، على الرغم من كون هذه الدولة قد أُقيمت على حدودٍ أكثر من تلك التي أقرها قرار التقسيم

في هذا الخصوص، يمكن رصد بعض المفاهيم التي وُجدت بِذارها في كراريس القاموس الأممي ضمن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فمثلًا قرارها رقم (181) لعام 1947، المعروف بقرار التقسيم الذي أعطى الأساس الشرعي والقانوني لإقامة دولة يهودية غير موجودة تجاورها أخرى عربية على ذات البقعة الجغرافية المسماة آنذاك فلسطين. في سنوات لاحقة تحديدًا العام 1949 ستعترف الجمعية العامة بهذه الدولة اليهودية تحت مُسمى دولة اسرائيل، على الرغم من كون هذه الدولة قد أُقيمت على حدودٍ أكثر من تلك التي أقرها قرار التقسيم المذكور. كما وستبتدع الجمعية العامة ضمن قراراتها مفاهيم جديدة فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية (Question of Palestine) الذي أُدرج أول مرة كبندٍ على جدول أعمالها عام 1947 ومن قبيل هذه المفاهيم: الإنسحاب الإسرائيلي من الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، القدس العربية، حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف.

بالمقابل لم تتضمن هذه القرارات أية بنود تُشير إلى فلسطين، كما لم تتناول أياً من القرارات حق الشعب الفلسطيني بتحرير وطنه فلسطين من الاستعمار/ الاحتلال الإسرائيلي والاستقلال على كافة جغرافيا فلسطين المشار إليها في قرار التقسيم.

بشكل مُتزامن كان القاموس السياسي الفلسطيني يشهد تغييرات عديدة، فمن مفاهيم واضحة الدلالة نصت عليها المواثيق التأسيسية لمنظمة التحرير الفلسطينية مُتمثلة بالميثاقين القومي فالوطني الفلسطيني، والتي أكدت على  التحرير الشامل لكامل فلسطين بحدودها الانتدابية باعتبارها وحدة إقليمية لا تتجزأ، واعتبار قرار التقسيم ووعد بلفور وصك الانتداب وقيام إسرائيل باطلة تتنافى مع المبادئ التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة، إلى مرحلة أخرى تبنت فيها المنظمة البرنامج المرحلي أو برنامج النقاط العشرة في دورة المجلس الوطني الفلسطيني الثانية عشرة لعام 1974، وهو البرنامج الذي أقرّ اقامة سلطة وطنية على أي جزء يتم تحريره من فلسطين، تمهيدًا لتحقيق استراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية المتمثلة بإقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني، وذلك بعدما كانت مُقررات دورات المجلس الوطني السابقة على عام 1974 ترفض اقامة أي كيان سياسي على أرض فلسطين المحتلة عام 1967.

أصبحت هذه اللغة أكثر راديكالية عام 1977 ضمن برنامج النقاط الخمسة عشر الذي تبنته الدورة الثالثة عشر للمجلس الوطني الفلسطيني؛ وذلك من خلال حصر غاية النضال الفلسطيني بتمكين الشعب الفلسطيني من استعادة حقوقه الوطنية الثابتة، وتبينها لمفهوم الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني الذي ابتكرته الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبشكل متوازٍ تم اهمال مفاهيم التحرير الشامل لفلسطين الانتدابية وإقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية على كامل أرض فلسطين لصالح اقامة دولة وطنية مستقلة فوق تراب وطني غير محدد.

في عام 1982، ستتبنى مقررات القمة العربية المنعقدة في فاس عام 1982 المشروع العربي للسلام مع إسرائيل، الذي يُطالب الأخيرة بالانسحاب من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967 بما فيها القدس العربية، والذي يمكن اعتباره قبولًا عربيًا رسميًا لمفهوم "القدس العريية،" وكأنه يطرح بمفهوم المخالفة وجود قدس أخرى غير عربية تمخض عنها لاحقًا مفهوم "القدس الشرقية،" الأمر الذي يمكن اعتباره إقرارًا بآثار حرب عام 1948 من احتلال فلسطين ووقوع القسم الغربي من مدينة القدس في أيدي العصابات الصهيونية آنذاك.

اللافت أن مقررات المجلس الوطني الفلسطيني في دورته السابعة عشر لعام 1984 قد أكدت على التزامها بمقررات القمة أعلاه تحديداً مشروع السلام آنف الذكر.

عام 1988، ستنص مقررات المجلس الوطني الفلسطيني ضمن دورته التاسعة عشر على البند أعلاه (يُذكر أنها ذات الدورة التي تبنت وثيقة إعلان الإستقلال لدولة فلسطينية غير معروفة الحدود حيث جعلت من قرار التقسيم رقم (181) الأساس الشرعي والقانوني لإقامة الدولة الفلسطينية. وقد كان البند المُشار إليه أعلاه ضمن بنود أخرى عُرفت بالمبادرة السياسية [الفلسطينية] للسلام، وهي المبادرة التي وصفها البعض بالمبادرة العقلانية التي شكلت قاعدة السلام الواقعي، الذي استُهل بتبادل رسائل الاعتراف بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة إسرائيل وتُوج بتوقيع اتفاقية اعلان المبادئ- حول ترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية/أوسلو عام 1993، التي لم تُشر مطلقًا إلى إقامة أية دولة فلسطينية، إنما اكتفت بترحيل كل من قضايا: القدس واللاجئين والحدود والمستوطنات، إضافة إلى قضايا أخرى إلى مفاوضات الوضع النهائي. وبشكل متوازٍ رسّخ الخطاب السياسي الفلسطيني المطالبة بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران 1967 فقط.

المفاهيم المُستحدثة التي تبنتها البرامج السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية أوجدت جيلًا فلسطينيًا يُعبّر عن عند الحديث عن مدن حيفا وعكا ويافا المحتلة بـ"إسرائيل"

هذه المفاهيم المُستحدثة التي تم تبنيها ضمن البرامج السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية ومن ثم الخطاب السياسي الرسمي الفلسطيني عبر مراحل زمنية عديدة، أوجدت جيلًا فلسطينيًا يُعبّر عن مدن حيفا وعكا ويافا المحتلة عام 1948 بــ "إسرائيل" ويُميز بين القدس والضفة الغربية، وإذ زدنا عليه جيلًا آخر يعيش في الغُربة يصف فلسطين التي سيزورها في مواسم الصيف بأنه "نازل على الضفة،" يمكننا حينئذ معرفة فخ اللغة الذي وقعنا فيه منذ سبيعينات القرن الماضي تحديدًا عام 1974 حتى اليوم، إذ ليس من المُبالغة القول إنه كان لهذه البرامج الأثر الواضح في "تمزيق مكونات الهوية الوطنية الفلسطينية والتجزئة الهوياتية والفعلية للشعب الفلسطيني" على حد وصف نديم روحانا ضمن دراسته المعنونة بـ"الهوية الوطنية الفلسطينية والحلول السياسية" المنشورة عام 2012.

ومن البرامج السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي نتج عنها اختلاق قاموس فريد مكوناته المفاهيم المتناقضة المُربكة التي ترسخت على الصعيد الفردي والجماعي الفلسطيني والرسمي، إلى العمل برزمة من التشريعات الفلسطينية السارية التي عززت هذا الإرباك لينعكس بطبيعة الحال على مفهوم الفلسطيني –أيضًا- الذي عرّفه ميثاقي منظمة التحرير الفلسطيني المذكورين آنفًا، وترسيخ نهج من التمايز بين فئة الفلسطينين القاطنين على الأراضي التي احتلت عام 1967 –والمفترض أنها أراضي الدولة الفلسطينية المستقلة- وبين فئة فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948 وفلسطينيي الشتات، من خلال السماح أو عدم السماح لهذه الفئة الأخيرة بممارسة حقوق المواطنة الاعتيادية كحق الانتخاب أو تسجيل شركات تجارية واستئجار وشراء الأموال غير المنقولة وحتى مزاولة بعض المهن داخل حدود الدولة الفلسطينية المستقلة.

اللغة التي تم استنطاقها فيما يتعلق بفلسطين، لم تطرح تباينًا بين مفهوم فلسطين الوطن والدولة الفلسطينية فحسب، بل أيضًا بين الفلسطيني كمفهوم نظري والفلسطيني المواطن الذي تتحدد أُطُر مواطنته حصرًا بإقليم الدولة الفلسطينية أي وفقًا لحدود البقعة الجغرافية التي يقطنها، دون مراعاة للخصوصية الفلسطينية التي أوجدتها النكبة منذ عام 1948، لنكون أمام حالة فلسطينية فريدة بمواجهة مفاهيم اللغة المتناقضة.