16-نوفمبر-2022
كتاب مجاعة لبنان

كتاب مجاعة لبنان

ضربت المجاعة جبل لبنان أثناء الحرب العالمية الأولى، فقد حاصر الأسطولان الفرنسي والإنجليزي الساحل اللبناني ومنعا عنه كل ما يحتاجه العيش في حدوده الدنيا، كما قام الأتراك بمصادرة الغلال والمواشي، والبشر كذلك (السفر برلك). ثم اكتملت الدائرة المشؤومة بزحف غير مسبوق للجراد.

وقد تسببت المجاعة في أعلى نسبة موت في فترة الحرب العظمى، إذ توفي نحو 200 ألف شخص من أصل 400 ألف هم عدد سكان الجبل في ذلك الوقت. ويحكى أن الجثث تكدست في الشوارع، وأن الناس كانوا يأكلون الحيوانات النافقة، بل إن البعض اضطروا إلى أكل لحوم البشر..

تسببت مجاعة لبنان في أعلى نسبة موت في فترة الحرب العظمى، إذ توفي نحو 200 ألف شخص من أصل 400 ألف هم عدد سكان الجبل في ذلك الوقت

عايشت امرأة إنجليزية جانبًا من تلك الأحداث المأساوية، ولحسن الحظ أنها كانت مغرمة بكتابة اليوميات، ما جعلها تترك لنا وثيقة تاريخية مهمة، صدرت منذ بضع سنوات في كتاب "مجاعة لبنان، شاهدة وشهداء"  (دار سائر المشرق، ترجمة جمال مدلج).

ولدت ميريام بيز في شيفيلد بإنجلترا سنة 1862 وانتقلت مع عائلتها إلى نيوزيلندا سنة 1865، وهناك كبرت وتنقلت بين مهن وأعمال عديدة قبل أن تتعرف بالشاب اللبناني الياس بو صادر وتتزوجه، ليغدو اسمها منذ ذلك الحين ميريام بيز بو صادر.

وكان ممكنًا للزوجين، اللذين أنجبا عددًا من الأولاد، أن يعيشا حياة هانئة في نيوزيلندا، لولا أن المرض ألم بإلياس ونصحه الأطباء بالعودة إلى بلده، حيث سيصل مع أسرته قبيل نشوب الحرب، فيعيشوا متنقلين بين الشوير وبرمانا وبيروت، ولتغدو يوميات الزوجة شهادة على المحنة التي سرعان ما أطبقت على الجبل.

تعرفت ميريام على مجموعة الأصدقاء البروتستانت (الكويكرز) الذين امتلكوا مدرسة ومشفى في برمانا، وتلقت منهم الكثير من المعونات، ثم صارت واحدًا منهم، وقامت بأعمال خيرية عديدة، كالإشراف على تربية الأطفال اليتامى، وتوزيع الطعام على الجائعين.

بانر العربي الجديد

ولكن ما كتبته السيدة بو صادر، لم يكن متناسبًا مع حجم المأساة وهولها، ذلك أن أوراقها جاءت منقاة ومصفاة، ويبدو أن إيمانها وتفاؤلها المفرطين قد جعلاها تركز على الجانب المشرق (!) محولة جزءًا غير قليل من يومياتها إلى مواعظ مكرورة تدور حول صيغة واحدة بعينها: "إذا وثقنا بالعناية الإلهية وصلينا من قلوبنا فإننا لن نُخذل أبدًا"، وكثير من فقرات الكتاب ما هي إلا أمثلة على هذه الخلاصة الورعة.

"وكنت أتمنى لو كان بإمكاني الحصول على كوب من الشاي، وخصوصًا وأنني لا أملك أيًا منه... وبينما كنت أسير في الشارع تقابلت مع أحد الأصدقاء، فإذا به يقول لي: تعالي معي لأعطيك قليلًا من الشاي.. وقد شكرت الله بينما كنت أتابع سيري، فهو يسمع صلواتنا أينما كنا وكيفما نكون". وسرعة استجابة السماء لم تقتصر على الشاي، إذ شملت الطحين والسكر والخبز والمال، بل إن السماء أمطرت دواء أيضًا: "في إحدى الليالي نهض زوجي الذي كان يعاني منذ خمسة عامًا من القرحة في المعدة، وسارع إلى إيقاظي من النوم قائلًا إنه يشعر بالمرض الشديد.. وقال الطبيب إن زوجي يحتاج إلى قطع من الثلج فورًا. ولكن كيف يمكننا الحصول على الثلج في هذا الوقت خصوصًا وأن قمم الجبال تبعد عنا ما بين ستين وسبعين ميلًا؟ طلبت المساعدة من الله، وبينما كنا ننتظر راحت السماء تمطر بغزارة، ثم سمعنا أصوات تساقط حبات كبيرة من البرد، فطلب مني الطبيب استخدام الرفش لإحضار ما يمكن جمعه من الثلوج".

وبالطبع فإن عطف السماء طال أناسًا آخرين غيرها، مثل ذلك الأرمل سليم الذي جاء يشكو إليها الجوع، فطلبت منه أن يصلي من قلبه، وقد فعل ذلك أمامها، وما إن غادر إلى منزله حتى وجد رسالة من شقيقه يعلمه فيها بأنه قام بتحويل أموال إليه.

بالتأكيد ليست دروس الوعظ هذه هي ما أعطى الكتاب قيمته، وليست هي التي حثت حفيدة ميريام، الصحفية البرازيلية ويلما قاري، على الاهتمام بمذكرات جدتها، والبحث عن ناشرين متحمسين لها.. فقد تسللت إلى اليوميات الكثير من الصور والأحداث المؤلمة والتي تعطي فكرة عن المجاعة الكبرى وما رافقها من أمراض وأوبئة، لنقف أمام وجه من وجوه المأساة، ولنحصل على معايشة حية وترجمة حسية لوقائع المؤرخين وأرقامهم الصماء.

كانت ميريام امرأة عادية غير مطلعة على شؤون السياسة العامة، فلم تقدم ما يفيد أنها تعرف الكثير عما يدور حولها في الجبل أو في المنطقة أو في العالم. ومع ذلك فإن مذكراتها تحمل فائدة كبيرة لكل من القراء الشغوفين والمؤرخين المختصين على حد سواء، فهي تروي سيرة أسرة لبنانية أثناء المجاعة، أب عاطل عن العمل، وأولاد جوعى، وأم تبحث عن العون لدى الجيران والمعارف بعد السماء.. مقدمة بذلك نموذجًا حيًا وصادقًا عما حل بالناس في ذلك المكان وفي تلك الأزمنة المشؤومة.

في فقرة تعود إلى آذار/مارس من العام 1916 تقول ميريام بو صادر: "لقد أصبح كل شيء غاليًا. فسعر رطل الطحين وصل اليوم إلى سبعة عشر قرشًا ونصف القرش. فليساعدنا الله جميعًا، وخصوصًا الأطفال الذين غالبًا ما كانوا يشعرون بالجوع باستمرار". وتقول: "كانت لدينا علبة كبريت واحدة. ومن أجل التوفير غالبًا ما كنا نحصل على بعض الجمرات لإشعال النار من أحد الجيران إذا ما بادر بإشعال النار أولًا".

وفي يوم من نيسان/إبريل في العام نفسه تكتب: "لقد بعت كل الملابس التي أعطاني إياها الأصدقاء الأعزاء من أجل شراء الخبز، ولم أستحم منذ شهرين لأن سعر الصابون كان غاليًا جدًا".

وفي 18 آب/أغسطس تكتب: "يا إلهي كم كنا نشعر بالجوع فالليلة الماضية لم نتمكن من الحصول سوى على رغيف صغير بسعر متليكين لنا نحن الخمسة".

في فقرة تعود إلى آذار/مارس من العام 1916 تقول ميريام بو صادر: "لقد أصبح كل شيء غاليًا. فسعر رطل الطحين وصل اليوم إلى سبعة عشر قرشًا ونصف القرش. فليساعدنا الله جميعًا، وخصوصًا الأطفال الذين غالبًا ما كانوا يشعرون بالجوع باستمرار"

وفي شباط/فبراير من العام 1917 يصبح الوضع أكثر صعوبة: "كل الناس هنا يشعرون بالجوع، والكثير منهم ماتوا بسببه. لم يعد لدى الناس ما يكفيهم من قوة لمواجهة الأوبئة... نحو خمسمئة شخص يموتون يوميًا هنا".

وفي نيسان/إبريل من العام 1918 تصل المأساة إلى ذروتها: "ابنة السيدة حاوي، سيدار، ذهبت إلى غاسيلي وقالت لنا إنها رأت على طول الطريق الهياكل العظمية للناس الذين قضوا جوعًا أو تعرضوا للنهب أو القتل. يا إلهي كم أن هذا الزمن صعب.. فهل يمكن لمن سيبقون على قيد الحياة بعد الحرب أن ينسوه؟".

لم يقدر لميريام المسكينة أن تبقى على قيد الحياة بعد الحرب، فما كاد الجنود الإنكليز يصلون إلى بيروت حاملين معهم طوق النجاة لمواطنتهم حتى وقعت المرأة ضحية للأنفلونزا الإسبانية التي أودت بحياتها، وكانت هذه هي الفقرة الأخيرة التي كتبتها في مذكراتها: "12 تشرين الأول/أكتوبر 1918.. وصلت أعداد كبيرة من الجنود الهنود على شاكلة جحافل فقيرة. كانوا يعانون من العطش الشديد، فقدمت لهم جرة من ماء الشرب".

في يوم الثامن والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1918 فارقت ميريام بيز بو صادر الحياة عن عمر 56 عامًا، وتم دفنها في "مقابر الأصدقاء" في برمانا.