20-مايو-2017

الدكتور عزمي بشارة خلال المحاضرة

في محاضرته الافتتاحية لمؤتمر "حرب حزيران/يونيو 1967 مسارات الحرب وتداعياتها" الذي ينظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الفترة من 20-22 أيار/مايو 2017 بالدوحة، قدم المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة قراءة تحليلية مفارقة لما هو متعارف عليه عربيًا في التعاطي مع تلك الهزيمة، ابتدئها منوهًا بأن حزيران 67 يُعد تاريخًا استثنائيًا للقضية الفلسطينية والمنطقة العربية عموماً، فهو التاريخ الحقيقي لإنشاء دولة إسرائيل وليس 1948، ويستحق أن تؤرخ الأحداث عربيًا وفقًا له؛ قبله وما بعده، فإسرائيل أكدت دولتها في هذا التاريخ كحقيقة ماثلة لا مغامرة، ما ساهم في تدفق يهود الشتات إليها، وانفتحت عليها الاستثمارات من بقية العالم، لكنها أيضاً خرجت من الحرب إسرائيل بخسائر كبيرة بمقاييس اليوم، وعلى الرغم من التحالف البريطاني الصهيوني المساند لها، لكن كذلك تلت تلك الحرب اساطير صهيونية أيضًا، من قبيل أنها حرب الكثرة المعتدية "العرب" ضد القِلة المعتدى عليها "إسرائيل" فعدديًا كان جنود الهجانة الصهيونية أكبر من أعداد الجنود العربية المشاركة في الحرب مجتمعة، بينما بن غوريون كان يقول أن حرب 1948 لم تحسم مسألة وجود دولة إسرائيلية، ولابد من حرب أخرى لكسر صلف النخب العربية وإقناعها بفكرة دولة إسرائيل.

عزمي بشارة: حزيران 67 يُعد تاريخًا استثنائيًا للقضية الفلسطينية والمنطقة العربية عموماً، فهو التاريخ الحقيقي لإنشاء دولة إسرائيل وليس 1948

ويرى بشارة أن مسألة من بدأ الحرب آنذاك؛ عبد الناصر أم إسرائيل، هو تساؤل لا يجدي في فهم تداعياتها، فحديث بن غوريون ومعطيات الواقع آنذاك كانت تقول بإن إسرائيل لطالما رغبت وتهيأت وكانت في كامل استعدادها للحرب، يؤيد ذلك أن إسرائيل كانت عرضت على العرب بعد الحرب صفقة مقايضة جميع أراضي ما بعد النكسة عدا القدس، مقابل سلام مع البلدان العربية، وقد استمر هذا العرض حتى حرب 73، وتحول إلى عرض بالاعتراف بدولة إسرائيل بعد حرب 1973. لكن ما بعد حرب الخليج تحول العرض الإسرائيلي للعرب والفلسطينيين إلى الأرض مقابل الاعتراف والأرض مقابل السلام عربياً، لكن كل ذلك لا يبرر الهزيمة العربية، لذلك كانت تلك الهزيمة محددًا لقضايا عربية كثيرة، وكنتيجة لها جرى تفكيك الصف العربي المُقاوم للاحتلال، وبدأت الأنظمة العربية منفردة في توقيع اتفاقيات سلام مع إسرائيل، ومع انحسار المقاومة العربية بدأت تنحسر فكرة القومية العربية، بينما لم توظفها الأنظمة التي تمسكت لصالح القضية الفلسطينية، بل جعلتها سلاحًا تستخدمه داخليًا ضد مواطنيها المطالبين بالحرية والكرامة.

عزمي بشارة: تسمية العرب هزيمة 1967 بـ"النكسة" أمرًا يستحق في ذاته أن تكتب فيه كُتبًا، لما تحمله التسمية من نبرة تخفيفية تموه الهزيمة

بحسب عزمي بشارة كانت تسمية العرب لتلك الهزيمة بـ"النكسة" أمرًا يستحق في ذاته أن تكتب فيه كُتباً، لما تحمله التسمية من نبرة تخفيفية تموه الهزيمة. فقد أرادت الأنظمة العربية أن تقول بأن لكل جواد كبوة؛ لأنهم حاربوا لكنهم فقط تعثروا. وحتى تُفهم النكسة أو على الأقل تُفسر على أنها نصر لهم، لأن إسرائيل لم تستطيع الإطاحة بأنظمتهم التقدمية، فجاء التهويل من مقدرات إسرائيل العسكرية، وبث أسطورة القوة الخارقة التي تتلقى دعمًا دوليًا، في معرض التبرير لعمليات السلام المنفرد التي انتظمت أنظمتنا العربية آنذاك، فتم تقديم بعض الضباط آنذاك كبش فداء بوصفهم متآمرين، وتقبل المجتمع العربي تلك الأساطير ورددها. ولنصف قرن من الزمان لم يتناول العرب أكبر هزائمهم التاريخية تناولاً علميًا بالدراسة والتحليل، على عكس ما فعلت إسرائيل، لذلك لن يجد الباحث اليوم عن النكبة سوى المكتبة الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية، لكن ما من مراجع عربية حول النكسة سوى مُذكرات البعض وكتابات شخصية متفرقة. فقد انشغل المثقفون العرب بما أسموه بالصدمة الحضارية نتيجة الهزيمة، وقارنوها بصدمة احتلال نابليون لمصر، فلا عجب أن تنتج الأدبيات التي تركز على مقولات الصدمة والهزيمة الحضارية جيلاً عربيًا معجبًا بإسرائيل وساعيًا للتقارب معها.

اقرأ/ي أيضًا: الجيش والسياسة – إشكاليات نظرية ونماذج عربية.. كتاب جديد لعزمي بشارة

عزمي بشارة: أسباب الهزيمة العربية في حرب حزيران/ يونيو كانت نتاجًا لأخطاء الجيوش العربية، التي وضعت خططًا لم تنفذها، وإن كانت طبيعة الأنظمة العربية تلعب دورًا مهمًا في تفسير تلك الهزيمة

ويستطرد بشارة ليقول إن تلك التفسيرات الوعظية للهزيمة تقاسمتها أربعة تيارات رئيسية؛ الأول كان يعظ بأسطورة التخلف الحضاري العربي وغياب التقدم والحداثة، والثاني يوظف مقولة البُعد عن الدين كسبب مباشر للهزيمة العربية، أما الثالث فهو تيار يساري يقول بأن الأنظمة العربية لو كانت تُطبق مبادئ الاشتراكية الديمقراطية لما انهزمت، وكأنما إسرائيل كانت دولة متدينة، لا بل وانتشرت بعض الأدبيات العربية التي تشدد على تمسك إسرائيل بالدين، بينما كان الواقع على العكس تمامًا، فإسرائيل كانت أكثر علمانية من اليوم، وكان يحكمها حزب عمالي اشتركي ذو نزعات داعمة للتأميم، بينما برر التيار الرابع وهو من دعاة الديمقراطية الهزيمة العربية بغياب الديمقراطية عن بلداننا. بينما في الواقع لم يكن ولا واحد من هذه التيارات على حق، فمعظم بلدان العالم التي انتصرت في حروبها لم تنتصر بسبب هذه الشروط، فالتقدم الحضاري والديمقراطية والتحرر وغيرها من قيم تراد لذاتها لا للانتصار في الحروب، فللحرب والانتصار فيها أسبابها وعواملها، كالجهد والعتاد العسكري والتسلح والتنظيم والتخطيط والقيادة والجاهزية والإسناد الاستخباراتي والروح المعنوية للجند وغيرها، كما أن للهزيمة في الحرب أيضًا أسبابها التي ليس من بينها أسطورة غياب الأيديولوجيا.

اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة: "الإجابة لا تزال تونس"

لمجمل هذه الحقائق مجتمعة يعتقد عزمي بشارة أن النظر العلمي والتحليلي الفاحص والدقيق بإمكانه أن يخبرنا بخلاف كل تلك الأساطير والتبريرات، فالحقيقة هي أنه لا الهزيمة العربية كانت أمرًا حتميًا، ولا الانتصار الإسرائيلي كان نصراً منزلاً، فالجولان لم يكن ليسقط ذاك السقوط المدوي لو صمدت الجيوش العربية وقاومت ولم تنسحب، والضفة كانت لتصمد لو لم ينسحب منها الجيش العربي بسبب أوامر مستعجلة من قائد عسكري مذعور، ولا سيما وأن سقوطها كان بسبب الانسحاب السريع.

عزمي بشارة:  التخلي عن لعب دور الضحية يمكن أن يجعل صورة المهزوم تبدو جيدة، فعلى الأقل ستجعله يتعامل بجدية مع أسباب الهزيمة

من هنا يعتبر بشارة أن أسباب الهزيمة العربية في حرب حزيران/ يونيو كانت نتاجًا لأخطاء الجيوش العربية، التي وضعت خططًا لم تنفذها، وإن كانت طبيعة الأنظمة العربية تلعب دورًا مهمًا في تفسير تلك الهزيمة، إلا أنها وحدها لا توفر إجابة عينية، فحتى أولئك الذين يفسرون الهزيمة بالتدمير الذي لحق بسلاح الجو المصري، فإن تجارب الحروب في العالم تثبت عكس ادعائهم؛ إن الصمود ورد العدوان لهو أمر ممكن حتى مع انعدام سلاح الطيران، إذ يمكن ردع العدو الغازي رغم ذلك. لذلك كانت ثمة معضلة أمام الأنظمة العربية في تبرير الهزيمة، فحاولوا القول إنها عدوان إسرائيلي وليست حرب كثرة ضد قِلة. وبالمقابل استفادت اسرائيل من نتيجة تلك الحرب أيًا كان توصيفها، وربطتها بتاريخ الهولوكوست، فثمة صناعةصهيونية للهولوكوست انتشرت بكثافة بعد حزيران 1967، إذ كان استخدامها قبل ذلك لسردية الهولوكوست محرجاً لها لأنه يذكرها بضعف يهود الشتات، لكن بعد محاكمة أدولف ايخمان جرى توظيف الهولوكوست بجدارة وحنكة، بحجة أن الأكثرية العربية التي تريد إبادة الأقلية اليهودية هي الوريث الفعلي لمرتكب الهولوكوست.

ويختتم عزمي بشارة محاضرته الافتتاحية بملاحظات غاية في الأهمية، مفادها أن العالم يُمكن أن يتعاطف مع الضحايا الذين يُقاومون لكن ليس بإمكانه أن ينتصر لهم، لذلك يتعاطف العالم اليوم مع الفلسطينيين باعتبارهم ضحايا، لكن ذات هذا العالم من الصعب عليه فهم أن جميع الدول العربية بإمكاناتها ومقدراتها الهائلة هي الضحية في تلك الحرب، إذ تبدو حجة المعتدي المنتصر أكثر مقبولية منها كسردية، فإنجازات اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية جملت صورتيهما لدى العالم، لذا فإن التخلي عن لعب دور الضحية يمكن أن يجعل صورة المهزوم تبدو جيدة، فعلى الأقل ستجعله يتعامل بجدية مع أسباب الهزيمة.

عزمي بشارة:  يُمكن للعالم أن يتعاطف مع الضحايا الذين يُقاومون لكن ليس بإمكانه أن ينتصر لهم

 ويحدد عزمي بشارة في نهاية محاضرته مجموعة تحديات وصعاب تواجه اليوم كل القوى المتطلعة لتغيير الأنظمة العربية السائدة، وتطرح نفسها بديلًا عنها يجملها في ضرورة أن تكون هذه القوى على وعي وإدراك ودراية تامة بشؤون سياسة الحكم وإدارة الدولة والاقتصاد، وأن لا تكتفي فقط بإجادة فن قيادة الحرب وإنما عليها كذلك أن تتقن كيفية صناعة السلم والأمن حتى تقدم لشعوبها بديلًا ناجحًا.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عزمي بشارة مشخصًا حال الخيار الديمقراطي العربي

عزمي بشارة.. تعرية ديمقراطية إسرائيل المتناقضة