22-مارس-2017

في الأهرام: محفوظ وإدريس والحكيم وعبد القدوس

عندما هتف عبد الحليم حافظ في وجه صلاح جاهين مندهشًا لما سمعه منه لأول مرة: "صورة؟!"، فسّر صلاح جاهين بكل بساطة: "نعم، فالوطن صورة، الثورة وإنجازتها صورة، إحنا صورة والتاريخ كله في النهاية مجرد صورة يا حليم". فسأل عبد الحليم بعد تفكّر في كلماته للحظات: "ويا ترى صورتك فيها إيه يا أبو صلاح؟"، فردّ صلاح جاهين وقد راح يقرأ من ورقته: "خُضرة ومية، وشمس عفية، وقُبة سما زرقا مصفية، ونسايم سِلْم وحرية، ومعالم فن ومدنية". ثم أخذ صلاح جاهين معه عبد الحليم في صورته أكثر، فتغنى بالفلاح والعامل والمهندس والواعظ والجندي والطلاب والمدرسين والعلماء والموظفين.. وجمال عبد الناصر.

صنع صلاح جاهين مع عبد الحليم أسطورة اسمها جمال عبد الناصر

لم يتغنَ صلاح جاهين الشاعر؛ بالأدباء والكتّاب، كانت أغنياته من عرق العمال وراء الآلات، فربما كان يرى الأدباء جماعة من المنعزلين في أبراجهم العاجية بعيدين عن ما تفيض به الشوارع والغيطان من ثورة وحياة، ورغم ما كان يدور في هذه الأبراج من معارك حامية، لم يكن يعتبر لنفسه علاقة بالأدباء ومعاركهم، ولذلك رصد نفسه منذ اندلاع الثورة ليكون عينها وسِجِّل إنجازاتها.

اقرأ/ي أيضًا: هل كفّرت ابنتا نجيب محفوظ والدهما بعد وفاته؟

صنع صلاح جاهيم مع عبد الحليم أسطورة اسمها جمال عبد الناصر، صارت تتغنى بها أجيال وأجيال بعدهما، رغم أن الإنجازات لم تكن من بداية عصر عبد الناصر وحده، بل هي سلسلة متدفقة من قبله، توهجت في عصره، واستمرت ثمارها تُجنى لسنوات بعده. وفي 1966 طلب صلاح جاهين من الزمان أن يصور، ولم يتوقف الزمان عن التصوير فصوّر الزمان وصوّر. 

وقد ترك لنا الزمان صورة لم أستطع أن أقف على تاريخ دقيق لها، من المرجح إرجاعها لمنتصف السبعينيات أو نهايتها. لكن عصا توفيق الحكيم توجهنا إلى جريدة الأهرام وتقودنا إلى الدور السادس الذي كان يضم نخبة كتَّابنا مثل توفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس ونجيب محفوظ وغيرهم. أما صلاح جاهين فلم يكن يحب جو المكاتب، وقليلًا ما يتردد على الأهرام خاصة بعد سقوطه في دوامات الاكتئاب والشعور باللاجدوى بعد نكسة 67، التي أتت على صور صلاح جاهين فنسفتها تمامًا، وجعلته يرى نفسه مجرد صانع أكاذيب. وغابت القضايا السياسية في كتاباته بعد زوال الستينيات، فالذي صوّر مصر المصانع والصواريخ والسد العالي، هو نفسه الذي صور أحسن ناس (1976) "آدينا بندردش ورانا إيه؟" وانزلق في ميادين أخرى توصف بالوجبات الخفيفة لشاعر أصبح يعاني من التخمة الفكرية، فابتعد عن المثقفين وقضاياهم، وابتعد عن جريدة الأهرام قدر ما يستطيع. وفي فترة رئاسة أحمد بهاء الدين تحرير الأهرام طلب من صلاح جاهين الحضور اليومي للجريدة، وخصص له غرفة في الدور الرابع، عصر جاهين على نفسه "شوال ليمون" وداوم على الحضور لعدة أسابيع فقط، حتى مرض أحمد بهاء الدين فامتنع عن الحضور مرة أخرى. وعن مكتب توفيق الحكيم تحديدًا فمن المعروف أنه كان ملتقى حيويًا للأدباء والكتّاب والشخصيات البارزة من كل دورٍ في الجريدة. لدرجة أن رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة كانا يجتمعان فيه أحيانًا. 

ومن جمال هذه الصورة وأهميتها أيضًا أنه شاء للقدر أن يجتمع فيها أربعة من رواد الفكر والأدب في تاريخنا، لكل منهم موقع مؤثر وبارز في القرن الماضي، في القصة والرواية والمسرح والصحافة. وحذرنا صلاح جاهين أن "اللي هايبعد م الميدان عمره ما هايبان في الصورة"، فغاب الشاعر، أو ربما هو الخامس المحتجب وراء الكاميرا، يُمارس هوايته الأثيرة "التصوير".

كان الجلوس في "مقهى ريش" عادة يومية لا ينقطع عنها توفيق الحكيم خلال بحثه عن نجيب محفوظ

لكن تعال معي إلى داخل هذه الغرفة البسيطة المحاطة بالكتب، وأكوام الجرائد والأوراق، يقف داخلها من اليسار: يوسف إدريس، توفيق الحكيم، إحسان عبد القدوس. لو أننا قسمنا الغرفة نصفين، فسنجد أن ثلاثتهم يقفون في جانب واحد من الغرفة، ونجيب محفوظ وحده يقف في الجانب الآخر، وإذا كان الثلاثة يقفون على نقاط متجاورة تشكل ضلعًا لمثلث، فإن وضع نجيب محفوظ جعله رأسه بامتياز، عالَمٌ بأكمله لا يُقارن، يمد يده للحكيم وهو يميل بظهره قليلًا كأنه يريد أن يجذبه إليه، يريد أن يقول له مكانك ليس في هذه الناحية إنما معي هنا، وذات يوم سُئل نجيب محفوظ عن علاقته بالحكيم فأجاب: لو كان توفيق الحكيم حيًا لخجلت أن أخرج من بيتي وأنا حاصل على جائزة نوبل وهو لا. لكن على ما يبدو أن يد الحكيم مترددة قليلًا، نظراته حائرة، ابتسامته مهزوزة، متشككة في صدق ابتسامة نجيب المتهللة.

نجيب محفوظ والحكيم

ربما ترجع أسباب كل ذلك إلى أربعينيات القرن الماضي، حينما هتف توفيق الحكيم بعلو صوته في أحد المجالس التي كان يرتادها، أن الأدب العربي ما زال حديث العهد بأنماط الكتابة الغربية وأن الرواية منجز أوروبي حتى الآن، وحتى الآن لم يجد الأدب العربي روايته بعد.

اقرأ/ي أيضًا: اعترافات نجيب محفوظ في حوار مجهول

لكن نقاشات الأربعينيات لم تكن تمر مرور السلام مثل نقاشاتنا العابرة التي اعتدنا أن نلوكها على المقاهي وعلى مواقع التواصل بلا أي طائل، إنما كان للاختلاف رونق التحدي، والتحدي طوال الوقت يؤخذ على محمل الجد. وإذ فجأة على إثر كلمات الحكيم القاسية ينهض أحد الكتّاب ويخرج من حقيبته كتابًا يُهديه للحكيم ويخبره أنه لو قرأه فسيطمئن على مُستقبل الرواية العربية لمئة عام قادم. أخذ الحكيم الكتاب بين كفيه وفي نظارته السميكة ارتسمت حروف "زقاق المدق" وتحتها إمضاء ذهبي صغير "نجيب محفوظ". 

لم يهتم الحكيم وقتها، وربما ظلت الرواية منسية وسط كتبه وحاجياته، حتى وجدت طريقها إليه أثناء أسفاره، فجلس وتململ في مقعده وبدأ يقرأ صفحة، فأخرى، ثم عشر صفحات، ثم عشر صفحات أخرى حتى أجهز عليها تمامًا. وعندما وصل القاهرة كان أول شيء يقوم به هو مهاتفة ذلك الشخص الذي اقترح عليه قراءة "زقاق المدق" وأول ما تصاعد إليه صوته قال الحكيم: أريد أن أرى نجيب محفوظ فورًا!

عندما مدَّ الصديق يده لتوفيق الحكيم في الشارع الذي اتفقا على اللقاء فيه، هتف في وجهه دون أن يمد يده: جئت لوحدك؟ أين نجيب محفوظ؟ فابتسم الرجل وأخذ يد توفيق الحكيم تحت إبطه وقال له في تقرير يشبه الاعتراف: أنا لا أعرف نجيب محفوظ، وكل ما أعرفه أنه يجلس على مقهى ريش، وكل ما أعرفه عن مقهى ريش أن صاحبه مات منذ يومين! 

صار الجلوس على مقهى ريش عادة يومية لا ينقطع عنها الحكيم ولا صديقه، ينتظران نجيب محفوظ ويبحثان عنه في وجوه المارة، فلا معلومات لديهم عن شكله سوى التصورات التي تخيلاها من الرواية، فلا يمكن أن يكون نجيب محفوظ قصيرًا لهذا الحد الذي بلغه عامل المقهى، ولا يمكن أن يكون نجيب محفوظ بدينًا لهذه الدرجة من الدهون التي يغرق فيها ذلك الرجل الذي يقرأ جريدته بالركن المقابل، نجيب محفوظ رشيق، نجيب محفوظ طويل، نجيب محفوظ حتمًا مهندم ووسيم، هكذا كانا يفكران طوال الوقت بهيئة نجيب محفوظ القابعة وراء السطور التي زادتهما شغفًا بلقائه ورؤيته. 

طوال سنواته التي قضاها في الأهرام، رفض نجيب محفوظ الجلوس على كرسي توفيق الحكيم

ويعد أسبوع من الانتظار، فقد الحكيم وصاحبه الأمل، ولم يعد يتردد الحكيم على المقهى بشكل دوري، لكنه كان يذهب إلى هناك من وقت لآخر، وفي إحدى المرات وهو جالس بجوار فنجان قهوته "ع الريحة" فوجئ بيد شاب في نهايات الثلاثينيات تمتد إليه وابتسامة عريضة وبشرة سمراء وصوت وديع يقول له: الحمد لله على سلامتك يا أستاذ توفيق. تفرس الحكيم في ملامحه قليلًا.. هو ليس وسيمًا، ولا أنيقًا، ولا يبدو عليه أي من أمارات الذكاء، فرحب به الحكيم على مضض ثم عاد لجريدته، ولما شعر الشاب بذلك قال له: لا أريد إزعاجك، لكن أحببت أن أقول لك أنني أعتبر نفسي ابنًا لأهل الكهف وعودة الروح. رفع الحكيم نظره إليه مرة أخرى، وسأله: أنت كاتب؟ فهز رأسه إيجابًا. فسأله: ما اسمك؟ فرد الشاب بابتسامته: نجيب محفوظ. وإذ فجأة قفز الحكيم من مقعده وضمه لصدره في عنف ثم أشار له بسبابته وهو يتفحصه من منبت رأسه حتى أخمص قدميه: "بقى أنت نجيب محفوظ!". 

اقرأ/ي أيضًا: هل كتب نجيب محفوظ قصة العالم؟

وهكذا بدأت العلاقة بين الأستاذ والتلميذ الذي تفوق على أستاذه، سنوات وسنوات طويلة حتى توفي توفيق الحكيم في عام 1987 وبعدها بعام واحد يحتفل العالم بتتويج نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب في 13 تشرين الأول/أكتوبر 1988م، وفجأة يجد نجيب محفوظ نفسه منقولًا من مكتبه الذي يتشاركه معه بعض الزملاء في جريدة الأهرام، إلى غرفة توفيق الحكيم، التي خصصت له لتليق بمكانته حيث ظلت مغلقة منذ وفاة الحكيم ولم تجد الأهرام أفضل من تخصيصها لنجيب محفوظ. 

وطوال سنواته التي قضاها في الأهرام، يرفض نجيب محفوظ الجلوس على كرسي توفيق الحكيم، فكلما دخل كأنه رأى الحكيم جالسًا على مقعده، فكان يُلقي التحية في سرّه ويجلس على نفس الأريكة الجلدية ذات اللون الأخضر الداكن الموجودة بالمكتب والتي كان يجلس عليها حين كان يذهب للحكيم في مكتبه، وهي ذات الأريكة التي جلس عليها ستوري آلين السكرتير الدائم للجنة نوبل عندما قدم له الدعوة الرسمية لاستلام الجائزة من يدي ملك السويد بالحفل الذي يقام سنويًا في ستكهولم بهذه المناسبة.

توفيق الحكيم وإحسان

ولننظر إلى السيجار الكوبيّ الفخيم في يد إحسان عبد القدوس، وقميصه الأبيض دون الجاكيت، مما يجعله بقسمات من الثقة والزهو ووجاهة أبناء الذوات في نقطة متباينة قليلًا عن الباقين. فتوفيق الحكيم ملاصق ليوسف إدريس، لكن بينه وبين إحسان عبد القدوس فراغًا ما، فجوة ليست كبيرة لكنها بعيدة، تعود بنا إلى منتصف الخمسينيات حين كان إحسان الأديب يُصارع إحسان الكاتب السياسي المشغول بمستقبل الحياة الجديدة التي تحياها مصر بعد 23 تموز/يوليو. وذات مرة فكر أنه لابد أن يكون لأدباء هذا الوطن وكتّابه كيانًا يجمعهم وينظم جهودهم ويحميهم، كيان كنقابة مثلا تحمي حقوقهم وتهيئ لهم المناخ الآمن للإبداع. وفي مكتب صديقه الحميم يوسف السباعي الذي يجلس على مقعد رئيس تحرير مجلة الرسالة الجديدة (1954-1958) -أول مجلة أدبية تُصدرها "حكومة يوليو"- أفرغ إحسان عمَّا يدور في جعبته، التمعت عينا السباعي وبابتسامة خبيثة سحب ورقة وقلمًا وقال له اكتب ما قلته لي الآن، سأضعه الليلة على مكتب جمال عبد الناصر! 

وفي يومٍ ما وفي الساعة الخامسة صباحًا رنّ الهاتف في منزل إحسان عبد القدوس، فاستيقظ مرعوبًا، حيثُ كان معتادًا في ذلك الوقت أن يُفاجأ باعتداءات من "زوار الفجر" أو بتهديدات سياسية أو بأخبار سيئة، لكنه فوجئ بصوت السباعي ينساب ضاحكًا عبر الهاتف.

السباعي: مبروك يا إحسان، لقد تحقق حلمك، وافقت الرئاسة، واليوم صدر القرار بإنشاء المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب. 
إحسان: فعلًا؟! 
لم تكن الضحكات التي تنساب في طيات حديث السباعي تطمئن إحسان، ولذلك استجمع نفسه وقال: "الحقيقة يا إحسان هناك أمر مضحك قليلًا، إنهم اختاروا 14 أديبًا وكاتبًا ليكونوا الجمعية العمومية، ينتخبوا من بينهم رئيسًا بعد ذلك".. ثم سكت قليلًا وقال: "وأنت لست منهم يا سيدي. ثم عاود الضحك مرة أخرى.. إنهم يقولون أنك لست أديبًا إنما أنت صحفي!". 

خلافات إحسان عبد القدوس مع عبد الناصر كانت خلافات مع النظام ورجاله

وتأسس المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب في 4 نيسان/أبريل 1956م، برئاسة الوزير الشاب الصاغ كمال الدين حسين، وتوزعت اللجان على كبار مثل العقاد للشعر وطه حسين للجنة الترجمة والتبادل الثقافي وتوفيق الحكيم للمسرح، ومن الشباب كانت السينما من نصيب السباعي ولجنة الاتصال العام لـيحيى حقي. وهكذا أغفل اسم إحسان عبد القدوس تمامًا في هذا الكرنفال الثقافي المميز والأول من نوعه في تاريخ مصر. لكنه كان يتابع ذلك كله من بعيد في سرور ويجد العزاء في دوران عجلة الثقافة في بلاده.

اقرأ/ي أيضًا: فكرة توفيق الحكيم وأسلوب نجيب محفوظ

خلافات إحسان عبد القدوس مع عبد الناصر كثيرة، والأدق أنها كانت خلافات مع نظام 23 يوليو ورجاله. ووصل هذا الخلاف إلى الزج به في السجن بسبب مقالاته التي لم تكن تترفق في توجيه النقد اللاذع للنظام وأخطائه. وأكثر من مرة قُدم للنيابة والمحاكمة بسبب قصة من قصصه، بل لدرجة أن طُرحت إحدى قصصه في إحدى جلسات مجلس الأمة، وكان رئيسه في ذلك الوقت هو محمد أنور السادات الذي هاتف إحسان صارخًا: 
- إيه اللي أنت كاتبه ده يا إحسان؟ 
وحينها حاول إحسان عبد القدوس إقناع السادات بأن القصة ليست سياسية، وأن مجلس الأمة ليس مكان مناقشتها، وأنها يمكن أن تُناقش في أي هيئة أدبية رسمية.. لكن ورغم تفهم السادات للأمر، لم يتخذ إجراء مغايرًا.. وتوجه إحسان حينها إلى المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب ليتدخل في الأمر ويمنع هذه الكارثة من أن تحدث، فهي جريمة في حقّ الأدب والأدباء؛ كيف يُستلب حق الهيئات المعنية بالأدب في قضية تمس النتاج الأدبي؟ لكن جاء الرد مخيبًا للآمال حيث اعتبر المجلس أن القضية برمتها سياسية وليست أدبية حتى وإن تعلقت بالأدب أو راح ضحيتها أديب، وكان توفيق الحكيم رئيسًا للمجلس آنذاك. 

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل قُدّم إحسان عبد القدوس للنيابة، والنيابة العامة أحالته لنيابة الآداب، ولم يستطع إحسان الاستمرار في الصمود، فاختبأ في منزله خوفًا واتصل بصديق العمر ورفيق رحلته يوسف السباعي فهو سكرتير المجلس الأعلى للآداب وسكرتير جمعية الأدباء وسكرتير نادي القصة، هو رجل المناصب الخطيرة كما كان يصفه بعض زملائه. تدخل يوسف السباعي من خلال اتصاله بمكتب جمال عبد الناصر، فتنازلت النيابة عن الدعوى، وحُفظت القضية برمتها.. أما الشخص الذي قدّم البلاغ في إحسان فقد شاءت الأقدار أن يلتقيا ليسأله: هل قرأت القصة؟ ويجيب بكل بساطة: لا. 

وأما ما كان من الجانب الآخر فقد روى السادات أن جمال عبد الناصر في أحد اجتماعاته قال أنه قرأ قصة لإحسان عبد القدوس يقول فيها إن ما حدث قبل الثورة هو ما يحدث بعدها، ولا شيء تغير في مصر حتى الآن. وأمرَ عبد الناصر أن تُعرضَ القصةُ في التلفزيون كما هي، وأوصَى الجميعَ بأن يُشاهدوها.

وفي خضم الصراع بين السياسة والأدب كان لابد للمحارب أن يستريح قليلًا، وذات مرة سأله السادات: 
لماذا توقفت عن كتابة القصة؟ 
وحينها ودون تفكير قال: 
لأنني لا أضمن أن يقرأ جمال عبد الناصر بنفسه كل ما أكتب.

إدريس ونجيب

لو ركزنا نظرنا على يوسف إدريس، تشبيكة أصابعه والسيجارة الرفيعة المحشورة بين إصبعيه، لوجدنا قسمات وجهه المتوردة بنضَارة الأربعينيات، وقامته الطويلة المتناسقة مع طول وجهه وخصلات شعره المصففة على يمين رأسه، أشبه الهيئة بنجوم هوليوود في تلك الفترة، أو نظرائهم في السينما المصرية مثل محمود ياسين وحسين فهمي. ونجده متوجهًا بكل جسده ناحية نجيب محفوظ، وضحكته على أقصى اتساعها، كأنه يريد أن يبتلع محفوظ داخله وينتهي منه للأبد. ربما العداء الذي يكنه يوسف إدريس لنجيب محفوظ تحديدًا، ليس عداء بالمعنى الحرفي للكلمة ولا يمكن أن يؤخذ على هذا النحو، إنما هو شعور بالتنافس والندية رغم أنه لم تجمعهما منافسة واحدة بالمعنى الحرفي. 

رغم فارق العمر بين يوسف إدريس ونجيب محفوظ، كان يرى أنهما في صف واحد

فهو ورغم فارق الخمسة عشر عامًا ونصف بينه وبين محفوظ، كان يرى نفسه في صف واحد معه، كان يرى أنه رائد في القصة القصيرة كما محفوظ رائد في الرواية، والحقيقة؛ أن محفوظ كتب القصة القصيرة بشكلها الحديث قبل يوسف إدريس بأكثر من أربعة عشر عامًا حين أصدر مجموعته القصصية الأولى "همس الجنون" سنة 1938. لكن كتابات محفوظ القصصية كانت لا تتناولها أقلام النقاد إلا نادرًا، وظلت حبيسة الطرح والنقاش، وكأنه اتفاق ضمني بتقسيم تركة الأدب لقسمين؛ الرواية لنجيب محفوظ والقصة القصيرة ليوسف إدريس.

اقرأ/ي أيضًا: زقاق المدق: الرواية والسينما!

وقد لعبت ظروف يوسف إدريس وظروف عصره دورًا كبيرًا في تقصير المتاعب عليه وتوهج هالته بسرعة. الطبيب النازح من القرية يثير صخب القاهرة بنشاطه السياسي البارز، يجلس على مقعد الصفحة الثقافية في روز اليوسف وهو في منتصف العشرينيات، حتى اعتقاله وصدور مجموعته الثانية "جمهورية فرحات" بتقديم طه حسين؛ كمنحة في بداية حياته تمناها الكثيرون ولم يحصل عليها إلا القليلون جدًا. فبينما كان نجيب محفوظ مشغولًا بالتشييد دخل يوسف إدريس المعبد مباشرة دون أن يُشارك في بنائه.

وفي حين كان يوسف إدريس يكتب قصة الواقع الاجتماعي، ويقتطع في مجموعته الأولى "أرخص ليالي" مشاهد من الحياة اليومية ويصنع لنا ألبومًا زاخرًا عن ملامح الطبقة الاجتماعية الجديدة التي تتكون في مهد النظام الجديد.. كان عقد الخمسينيات يضج بأشكال متباينة في الكتابة رغم سطوة الواقعية الاشتراكية بمفهومها السطحي والساذج، والذي استطاع يوسف إدريس أن يخرج منه بعد ذلك ببراعة واقتدار، لكن ظل شعار الواقعية هو المُصدّر طوال الوقت، رغم استنكار الكبار أمثال طه حسين الذي دخل في معركة حامية مع محمد مندور ولويس عوض ومحمود أمين العالم في هذا الشأن، ولذلك كانت التغريدات خارج السرب لاتجد رواجًا لدى أغلب النقاد في تلك المرحلة. 

وفي عام 1962 خرج نجيب محفوظ بقصة "زعبلاوي" وهو الرمز المجهول الذي تدور حوله مغامرات البحث دون الوصول لنتيجة نهائية حول وجود زعبلاوي من عدمه، ولعله لا يخفى على القارئ التشابه اللفظي بين بطلي محفوظ الرمزيين "زعبلاوي" و"جبلاوي" في أولاد حارتنا، هذا التشابه أيضًا له إسقاطات دلالية عديدة مما جعل صلاح عبد الصبور يخصص لهذه القصة ومجموعتها "دنيا الله" مقالًا مُرددًا فيه مع بطل القصة: وأيقنتُ أن العلاج هو الزعبلاوي.

وقد كانت هذه القصة أول قصة يحصل عنها نجيب محفوظ على أجر، وأول قصة تُترجم له للعبرية ولغات عديدة أخرى، وأول قصة تأخذ القصة القصيرة المصرية في بوابة جديدة غير الواقعية الاجتماعية التي نبت منها يوسف إدريس. وعندما حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب، لا كروائي فقط وإنما ككاتب قصة قصيرة أيضًا، أُدرج في التنويه بمجموعته "دنيا الله" أنها "ناقشت كل القضايا الوجودية التي تخص الإنسان في أي رقعة من العالم". وهكذا طارت به مجموعة دنيا الله كلها إلى العالمية.

أشاع يوسف إدريس أن جائزة نوبل ذهبت إلى محفوظ لرضا إسرائيل عنه

اقرأ/ي أيضًا: أسرار دكتاتورية يوسف إدريس

كل ذلك دفع بيوسف إدريس إلى الجنون، وجعله يصيح في الصحف والمجلات هنا وهناك، بخرافاته وأساطيره عن أن لجنة نوبل قد وعدته بالجائزة، فمن المعروف أن لجنة نوبل لا تعد أحدًا وإنما الكاتب يُفاجأ مثله مثل أي شخص بالدعوة للتكريم، وربما في بعض الأحيان يكون الكاتب آخر من يعلم مثل ما حدث مع محفوظ. الغريب أن الكثير من مُحبيه ومريديه أخذوا يرددون هذا الأمر ويتناقلوه فيما بينهم حتى يومنا هذا، ولا أساس له من الصحة بالطبع. ولم يهدأ الأمر عند هذا الحد بل شرع يوسف إدريس يمرر الطعنة تلو الأخرى لنجيب محفوظ، فمن التقليل من شأنه وقدره وأنه أحق منه بها، إلى الغمز بعلاقة تأييد نجيب محفوظ لاتفاقية السلام برضا إسرائيل عنه، ومن ترضى عنه إسرائيل من السهل أن يحصل على جائزة نوبل!

مواقف كهذه قد تظل لصيقة بالتاريخ إلى الأبد، فكان من المُلاحَظ بعد هذه الأحداث، أن يرتبط اسم يوسف إدريس بنجيب محفوظ أكثر، فكلما ذُكر أحدهما، ذُكر الآخر، حتى أصبح حضور كل منهما يضع الآخر في مُقارنة معه، رغم أننا من النظرة الأولى للصورة التي تركها التاريخ، لن نجد البدلة الغامقة التي يرتديها نجيب محفوظ وتحتها البروفل الصوف ندًا لبدلة يوسف إدريس الفاخرة وكرافتات الثلاثة جميعًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

4 روائيين مصريين نقلت أعمالهم إلى الشاشات

توفيق الحكيم.. عصفور على خشبة المسرح (1- 2)