23-أكتوبر-2023
كاريكاتير لـ عماد حجاج/ الأردن (العربي الجديد)

كاريكاتير لـ عماد حجاج/ الأردن (العربي الجديد)

كنت قد بدأت بالاعتقاد بأنني تعودت على مشاهد الدم والقتل المروع، بوصفي مواطنًا سوريًّا ينتمي لمدينة حمص التي نالت ما نالته من تعسف وقسوة مارسها نظام الأسد خلال السنوات الماضية، فدمّر الكثير من أحيائها وقتل الآلاف واعتقل الآلاف وهجر عشرات الآلاف منهم.

غير أن ما تشهده غزة اليوم من هجمة إسرائيلية همجية فاقت كل التوقعات بوحشيتها، أعاد لنا الألم حارًا وشديدًا كما لو أننا نمتحن موتنا لأول مرة.

أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية عن خروج أربع مستشفيات عن الخدمة في شمال ووسط قطاع غزة بسبب الاستهداف الإسرائيلي المتعمد لها.  كذلك تم تعطيل أربعة عشر مركزًا صحيًا إثر انقطاع الكهرباء ونفاد الوقود عنها.

لقد شهدنا سابقًا حروبًا وحشية إلا أننا لم نعرف وقاحة حكومات وتصريحات كالتي تمر على رؤوسنا في هذه الكارثة، ولنا في تصريحات الرئيس الأمريكي خير دليل

كل ذلك يجري في ظل تبرير دولي واسع لاعتداء اسرائيل على قطاع غزة بحجة مكافحة حركة حماس، تحت هذا العنوان يتم قطع والماء وقطع إمدادات الوقود، وتجويع السكان وخنقهم لإجبارهم على النزوح القسري من الديار.

تجاوز عدد الشهداء 4651، من بينهم 1873 من الأطفال و1023 من النساء و150 من كبار السن، ونحن نعلم تمامًا بأن الإحصائيات في مثل هذه الأحوال تكون غير دقيقة عادة، كما أن همجية الحملة الإسرائيلية المستمرة لا تترك مجالًا للأرقام بالتوقف.

الموت يسبق حتى دقة مقالاتنا، نحن أمام عداد بشري لا يرحم طفلًا أو شيخًا أو امرأة، ولا يحترم مسجدًا أو كنيسة.

لقد شهدنا سابقًا حروبًا وحشية ولكننا لم نعرف وقاحة حكومات وتصريحات كالتي تمر على رؤوسنا في هذه الكارثة، كتصريحات الرئيس الأمريكي التي تلت قصف المشفى المعمداني الذي تجاوز عدد ضحاياه خمسمئة من الأبرياء، لو تأملنا هذه التصريحات الفاجرة والتي تم تبريرها لاحقًا بأن وزارة الدفاع هي من زودت الرئيس الأمريكي بتلك المعلومات، لوجدنا بأنها تصريحات لا تكتفي بنسب الجريمة للضحية، بل تتعمد ذلك بصلف وعجرفة القوي الذي يعرف بأنه ينتهك كل المواثيق الدولية والأعراف ويرمي بالدبلوماسية الاعتيادية المنافقة عرض الحائط.

ربما تفسر هذه الوقاحة السياسية التي ترافقت مع وقاحة إعلامية، تزعمتها كل المنابر التي تدعي الحيادية والموضوعية من المحطات التلفزيونية الإخبارية الغربية ووكالات الإعلام كل ذلك الغضب الذي اجتاح عواصم العالم، فخرجت المظاهرات من كل حدب وصوب منددة بالجريمة التي يرتكبها العدو الصهيوني.

وربما تكون هذه الفاجعة رغم فداحتها تذكيرًا مهمًا لنا بأن غزة الجريحة مجرد عنوان صغير لعنوان أكبر هو فلسطين العربية السليبة والمحتلة.

فلسطين التي هان العرب جميعًا عندها تركوها لقمة سائغة بين فكي الشيطان، ثم تراكض بعضهم لعناقه وتصديره كملاك.

منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى توقع الجميع بأن ما قبل العملية لن يكون كما بعدها حتمًا، لا يمكن لأحد أن يتنبأ بمسارات الحرب ولا بالأقنية التي ستشكلها تيارات الدماء الفلسطينية الزكية المتدفقة، لكن الحرب حتى هذه اللحظة وضعتنا أمام خياراتنا مجددًا، وأمام ضمائرنا، فهي القضية الناصعة البياض والتي لا يمكن لأحد إنكار أحقيتها.

سبق لنا أن تجرعنا كؤوس الموت في ثوراتنا ضد الطغيان في بلدان الربيع العربي، لكن العالم الغربي بصمته حينها عن المجازر كان يدعي بأنه مضلل ومنقسم بين روايات متضاربة.

الآن تقف حكومات العالم الغربي مجللة بالعار، لا لصمتها بل لانحيازها للعدوان، مستندة على حجج واهية تقضي بأن الأمر مجرد دفاع اسرائيلي عن النفس في وجه منظمة حماس، وكلما أطلقت الأخيرة تصريحًا كلما وجدوا فيه وقودا للاستمرار في اللهاث خلف تبريراتهم الواهية.

العار لا يستثني أيضًا أي صامت ممن يخاف على مصلحة شخصية، وجد نفسه فجأة في صراع بين أن يساند قضية شعب عربي مظلوم وأن يدفع ثمنا كالتهميش.

تبًا لخشبة مسرح صامتة ميتة وعاجزة في زمن المجازر.

تبًا لشاشات السينما المعقمة من كل ما يدين محتلًا أو طاغية أو عدوًا.

ربما لا يحق لنا مطالبة أحد بالكلام أو مشاركة المواقف المساندة والداعمة، وقد لا يزيد أو ينقص في الأمر شيئًا لو امتنع أو لم يمتنع البعض عن المناصرة، لكنه الذاكرة، والذاكرة مازالت حية ولا يجب أن تنسى أبدًا من خذل شعبه في لحظات محنته.