22-أكتوبر-2023
(Getty) الشرطة الألمانية تقمع مظاهرة مؤيدة لفلسطين في برلين

(Getty) الشرطة الألمانية تقمع مظاهرة مؤيدة لفلسطين في برلين

ذكّرهم الخوف الذي احتل مساحات وعيهم ولا وعيهم على حين غرّةٍ، خصوصًا مع تصاعد نبرة القمع من حولهم، بطعمة خوفٍ ظنوا أنهم تركوه وراءهم حينما غادروا سوريا، ولهذا بات سيناريو مغادرة ألمانيا يفرض نفسه بشدة عليهم.

قال أحدنا: "البلد الذي يُراكم فينا خوفًا لا تجب السُّكنى فيه".

جلسنا وحيدين ومع بعضنا البعض في الوقت نفسه لشدّة ما فينا من الحزن. لكننا، شيئًا فشيئًا، رحنا نعثر على صلابتنا، عندما فعل الدعم والمواساة فعلهما فينا وأعطيانا التماسك الداخلي الذي تحتاجه نفوسنا التي تخلخلت من شعورها بالمهانة.

تنقل الحديث بين قصف غزة والحزن على المدنيين الذين تسفك دماؤهم في حرب إبادة مفتوحة لا تجد من يوقفها، وبين قمع كلِّ ما هو فلسطيني في البلاد الألمانية، الذي وصل إلى تهديدات بالترحيل وسحب الجنسيات.

فعل الليبراليون ما لم يفعله أحد في السياسية الألمانية الراهنة، والآن ننتظرهم أن ينتقلوا إلى المرحلة التالية من القمع وتأثيم الآخرين، وتسفيه شعاراتهم وتضامنهم ودفاعهم عن المدنيين الأبرياء

قال آخر من حصل على الجنسية الألمانية في دائرتنا: "يبدو أنهم يعطوننا إقامةً وليس جنسية!". في إشارةٍ إلى الاحتمالات القانونية الممكنة لسحب الإقامات، وإلى تتفيه الجنسية التي تُعطى للملونين كي تُسحب بمزاج سياسيين يُسيئون إلى معنى المواطنة.

هو خوفٌ معادٌ. خوف تعرفه القلوب الشكّاكة جيّدًا. وبحدسها الطبيعي تعرف أنه لن يقود إلا إلى وضعنا في مواجهات جديدة.

ويا له من حظ بائس أن نظل نخوض المواجهات في كل المراحل والأمكنة!

الأصدقاء يشعرون بالغضب الشديد. أعصابهم متوترة. ملامحهم منفعلة. وذلك لأن ما يحدث إهانة مقصودة من الدولة وممثليها، لا سيما حين يعمدون إلى النظر لتعبيرنا عن ثقافتنا بوصفه دعمًا للإرهاب.

ملابسنا إرهاب.

أعلامنا إرهاب.

لغتنا إرهاب.

هكذا يروننا ولن يتوقفوا أبدًا.

مع كلّ جولة يريدون أن يحققوا تقدمًا أكبر مما حققوا، وأكثر من التقدم الذي تحققه الأحزاب الشعبوية، لكنهم بشيطنة فلسطين وجدوا ما لم تجده تلك الأحزاب، وبات من السهل عليهم أن يُعبّروا عن ذلك الكره والتعالي بحجة أننا مع الإرهاب، وأننا نعادي السامية، وكيف ننفي ذلك ما دمنا فلسطينيين أو داعمين لفلسطين؟

فعل الليبراليون ما لم يفعله أحد في السياسية الألمانية الراهنة، والآن ننتظرهم أن ينتقلوا إلى المرحلة التالية من القمع وتأثيم الآخرين، وتسفيه شعاراتهم وتضامنهم ودفاعهم عن المدنيين الأبرياء، إلى التحريض والضغط، حتى الوصول إلى مرحلة أخرى من الأذى. ولنا في ما حدث للطفل الفلسطيني وديع الفيومي عبرةً. فالست وعشرون طعنةً نطقت في لحمه الحي بكل ما خزّنته قواميس الإسلاموفوبيا والعنصرية.

هذه لم تعد بلاد أمان. ليس لنا نحن الذين عبرنا البحار والغابات وحسب، بل لأهلها الذين يظنونها بلاد الحرية والديموقراطية، مع أن ما نجده يوميًّا هو أن الحرية مرهونة للبعض، وأن الاستعلاء هو من يحكم العلاقة مع الآخر، وأن الأخبار التي تكذب بإصرار لا تصوغ حقائق وتخفي أخرى وحسب، لكنها تهيأ المناخ العام لعدوانية مشرعنة.

قال أحدنا: "ألمانيا.. واحسرتاه على ضياع بلد عظيم! واحسرتاه على بلد العلم والفلسفة والأدب!".

قلت له: "لا تتحسر يا صاحبي، فهي لم تكن على غير هذا. وتذكر أن كارل ماركس، أهم مثقفي ألمانيا في القرن التاسع عشر، حُورب بلؤم، وها هم اليوم يتباهون به. وأنّ أهم مثقفيها وعلمائها في القرن العشرين، آينشتاين وتوماس مان وبريشت.. وغيرهم، عاشوا منفيين".

طُرد ماركس من ألمانيا بعد ثورة 1848 - 1849. ذهب أولًا إلى باريس لكن الحكومة البروسية ضغطت على الفرنسيين لطرده أيضًا، فانتهى فقيرًا محرومًا في لندن حيث مات. وغادر آينشتاين ألمانيا عام 1933 ولم يعد إليها أبدًا. وتوماس مان عبّر عن يأسه من بلاده باستعمال مثل شعبيّ: "عشرة خيول لن تعيدني إلى ألمانيا". وبريشت تشرّد في البلدان، وبعد عذاب مع المكارثية الأمريكية قرر الانتقال إلى جمهورية ألمانيا الديمقراطية في نهاية المطاف، أي إلى الشيوعية، كما لو أنه يئِس من كل ما في الغرب!

هي بلاد لا تبالي. تعلمتْ أن تكون كذلك. غالبية أهلها لا تهتم بغير الراتب والمدخرات والعطلة السنوية. لا يهمهم ما يجري خارج الحدود، ولا خارج مدار لغتهم في الحي المجاور. ولا يرون من الأخبار غير ما تطرحها عليهم سلطاتهم الموثوقة بلا سبب وجيه للثقة. لماذا يفعلون ذلك وهم يملكون أكثر مما يحتاجون؟

قرأتُ قبل يومين فكرة مهمة كتبها ياسين الحاج صالح في مقال. قال إن تفاهة الشر الأيخمانية، كما رأتها حنا أرنت، هي العجز عن التفكير من منظور الآخرين، فتفاهة الشر عند أيخمان تكمن في لامبالاته بمن كان ينقلهم إلى معسكرات الإبادة النازية، وعدم تفكيره بهم وبما سيحدث لهم. وعلى هذا فالعجز عن التفكير بالآخر، من موقع الآخر نفسه، هو عجز عن التفكير بحد ذاته، ومن ثم العجز عن الشعور به والتضامن معه.

لهذا تبدو النفسية السائدة في ألمانيا المعاصرة، بحسب المقال، هي نفسية أيخمانية.

نتيجة لكل ما سبق من المتوقع أن يصبح الدعم الشعبي للقمع الرسمي واقعًا، ووقتها سوف تزداد الكراهية، وتتسع متاهات التنميط والتشويه، ولا يمكننا توقع المساعدة.

اتفقنا أن هذه أوقاتُ الغضب. لا شيء سواه. نحن هنا، على هذه الطاولة، غاضبون، وهناك في الخارج مدن غاضبة، وشوارع حانقة، وكتابات على الإنترنت وهتافات في الشوارع ملأى بالسخط.

 العجز عن التفكير بالآخر، من موقع الآخر نفسه، هو عجز عن التفكير بحد ذاته، ومن ثم عجز عن الشعور به والتضامن مع هذا الآخر

تذكرت فجأةً أن الغاضباتُ والغاضبين لم ينفجروا اليوم وحسب. هم كذلك منذ أكثر من قرن، لكنّ غضبهم لم يكن مرئيًّا كما هو الآن في زمن المنصات، ولا كما بات يظهر منذ عصر الثورات العربية، التي انتهى الناس فيها إلى هاربين لم يحملوا معهم شيئًا سوى الغضب، وباقين لم يعد لديهم شيء عدا الغضب.

لأجل هذا صار الغضب مرئيًّا للعالم حين وصل إلى ساحات المدن الكبرى. وحين أوجدت له الشاشات الصغيرة مساحاتٍ للعبور فوق الرقابة وانعدام التفاهم.

لكنّ الغضب كما أعرفه قديم. ولدتُ في زمنٍ غاضب. أصدقائي هنا مثلي. ثم عرفتُ أن والديَّ وُلدا في زمنٍ غاضب آخر، وكبرتُ وتعلّمت أنّ بلادي لم تعشْ مع شيء مثلما عاشت مع الغضب، ولم تعش شيئًا كما عاشتْهُ. وحيث إن الناس تعيش على هواء وماء في كل مكان، فإن ناس بلادي عاشت وتعيش على هواء وماء.. وغضب.

ثم عرفوا أن الغضب لا يكفي. لا بدّ من مشروع، لا بد من كيان جماعيّ، حزب أو جماعة، مليشيا أو جيش. لهذا بنوا مشاريعهم على شكل انقلاباتٍ وثوراتٍ وجيوشٍ وتنظيماتٍ وأحزابٍ، وكلها قامت بسبب الغضب، وانتهت بسبب الغضب.

حتى الأغاني، نعم حتى الأغاني، امتلأتْ به إلى حد الذهول، ومنها واحدةٌ لا تكتفي بما هو متوفر بين يديها فتطلب المزيد على صيغة سؤال: "الغضب العربي وين؟"، وأخرى تنكر الغضب الموجود والمباح أمامها لتِعدنا بآخر قائلةً: "الغضبُ الساطع آتٍ".

صرنا شخصيات مترعة بالصراخ والتوتّر. لا نحسن قول شيء هادئ. لا نعرف كيف تقال الأشياء الهادئة، أو لماذا تقال الأشياء بهدوء، لأننا غاضبون، ولأنّ الغضب طريقتنا وأسلوبنا.

أصدقائي جلسوا إلى الطاولة. قالوا كل شيء. ثم صمتوا طويلًا ليستمعوا إلى آهات أم كلثوم التي انتبهوا فجأة أنها كانت في خلفية حديثهم طول الوقت.

قال أحدنا: "شاهدت فيديو لرجل غزيّ أمام ركام البيت الذي ظل يبنيه لأربعين سنةً. وحين انهار وأعجزه البكاء عن الكلام، لم يجد ما يقوله سوى: فليكن فداءً لفلسطين!".

قال ثان: "على كل من تسبّبوا بهذا الغضب أن يتوقفوا عن المطالبة بإنهائه، وأن يتواضعوا قليلًا ويحاولوا أن يفهموا من أين جاء!".

وَدَّعنا بعضنا البعض غير مبالين بما سيأتي، لأنه سيكون كما كان دومًا: فداءً لفلسطين.