25-يناير-2017

صارت الهجرة حلًا للكثير من المصريين في ظل أوضاع البلاد الحالية (إيميلي إيرفنغ/أ.ف.ب)

"ماذا جرى للفارس الهمامْ؟ 
انخلع القلبُ، وولَّى هاربًا بلا زِمامْ 
وانكسرتْ قوادمُ الأحلامْ" 

صلاح عبد الصبور

ست سنوات مرت على الثورة. وكأن الأعمار شريط سينمائي طويل حافل بصور وذكريات ورؤى وتجارب. تغيرت مصر كثيرًا وحتى الثورة أخذت صورًا ذهنية عديدة لدى الشارع وارتبطت في ذاكرته بمفردات ومعان مختلفة.

ص.أ، بروفيسور في جامعة بالخارج: "الثورة كانت الأمل الذي انتشل الناس جميعهم من الضياع وأعطاهم إيمانًا بأن تغييرًا حقيقيًا قد يحدث"

أردنا أن نعرف كيف تبدو الثورة الآن بعد هذه السنوات؟ كيف يبدو وجه الوطن في الذاكرة من بعيد، خاصة بعد أن تدهورت أحوال مصر الاقتصادية بشكل كبير، وأصبح أفقها السياسي أضيق من أن يُحتمل. هل حقًا من غادروا البلاد هم أقل حبًا لها؟ هل الإصلاح ممكن اليوم؟ هل ستتفجر الأوضاع إلى ثورة جديدة؟.

كيف خرجوا؟ وماهي ملابسات خروجهم؟ كيف عاشوا خارج البلاد؟ كيف احتوتهم الغُربة؟ هل يحلمون بالعودة؟ أم أن اللاعودة هي خيارهم الوحيد الآن على الأقل؟ ماهي أسئلتهم التي يفكرون بها اليوم؟ وكيف هي إجاباتهم عليها؟.

سألنا بعض المصريين المغتربين، من أعمار مختلفة وتخصصات مهنية مختلفة، رجالًا ونساء، عن تجاربهم الذاتية مع الاغتراب بعد الثورة، مع أن منهم من قرر الخروج وتقاطعت الثورة مع خططه، ومنهم من قرر الخروج بعد أحداث اعتبرها مفصلية في المشهد السياسي في مصر.

اقرأ/ي أيضًا: أقرباء مبارك وبن علي.. للواجهة في يناير الثورة

فتح كثيرون قلوبهم لـ"ألترا صوت" للحديث عن تجاربهم، ولضمان سلامتهم أدرجنا حروف أسمائهم الأولى، في إشارة مطمئنة لكثير منهم ممن لا يزال يخشى "البوح في العلن". هناك حالات تحدثنا معها كانت شديدة القرب من الحدث "الثورة" وأخرى عاشتها كما عايشها الملايين. فلمسنا أن أكثر المتألمين هم الذين اقتربوا من يومياتها، "كانوا لحم الثورة ودمها"، كما عبر أحدهم.

ص.أ، بروفيسور في إحدى الجامعات بالخارج يقول: "الثورة كانت الأمل الذي انتشل الناس جميعهم من الضياع وأعطاهم إيمانًا بأن تغييرًا حقيقيًا قد يحدث في بلادهم".

- متى تركت الوطن ؟

- تركته بعد 30 يونيو بثلاثة أشهر.

- لماذا؟

- كانت مشاهد الدم في الشوارع أمرًا لا يمكن تجاوزه نفسيًا، رابعة والنهضة. كان الأمر نوعًا من الهروب أنا أعترف بذلك، لي أخ وابنه مسجونون منذ ثلاث سنوات، ولا أستطيع أن أفعل حيالهم أي شيء. تخيلي أن الولد في الخامسة عشرة فقط ؟".

حين سألته كيف تم القبض عليهم؟، قال لي: "بعد فض رابعة وجدوا على موبايل الولد شعار رابعة فتم القبض عليه هو ووالده وصدر بحقهم حكم بثلاث سنوات".

وهل تفكر بالعودة؟، فأجاب: "في ظل النظام الحالي، لا.. حتى حين كانت فرصة الخروج من مصر لم أتردد لحظة، أرى الوطن اليوم في منتهى القسوة على أبنائه".

(أ. ب) يعمل في أحد الفنادق في دولة في أمريكا اللاتينية، يقول: "تركت مصر في عام 2014. والثورة بالنسبة لي أصبحت ذكرى جميلة كالذكريات التي نمر عليها ونحن صغار السن بحنين طيب ونحن نعرف أنها لن تعود مرة أخرى أو على الأقل لن تعود كما كانت أول مرة".

"كيف خرجت من مصر؟": "خرجت لأسباب مادية ولسخطي على حال البلاد وقتها. تخرجت عند حدوث الثورة تقريبًا وبحثت عن عمل كثيرًا وكنت أعمل في أشياء لا علاقة لها بتخصصي، عملت في سوبر ماركت ثم في مركز اتصالات، ثم اشتغلت موظف استقبال في أحد الفنادق ولكني كنت أقترض من أبي لأكمل نفقاتي، ثم واتتني الفرصة للرحيل فلم أتردد، كيف أعيش في بلد أخاف فيها أن أقول رأيي بحرية؟.. لا أفكر في العودة للاستقرار ربما أعود لأزور أهلي لكنني لن أعود لأستقر مجددًا".

هناك من ترك البلاد وقلبه معلق بها ممن كانوا داخل الموج الثوري نفسه مثل (ن.ز). وهو يعيش الآن خارج البلاد ويقول: "أهرب من أي شيء يجمعني بالثورة، أهرب من مقاطع الفيديو والصور، حين أرى شيئًا له علاقة بها تدمع عيني وأدخل في نوبة حزن كبيرة". ويضيف: "كنت مشاركًا في الثورة حتى في مراحل التحضير والتنسيق مع القوى السياسية، حتى مع بدايات نزول الناس مجموعات صغيرة، إلى أن رأينا الناس تخرج بالآلاف، مرورًا بلحظات مفصلية مثل انتخابات مجلس الشعب ومحمد محمود والمقاطعة والاستفتاء وانتخابات الرئاسة. والآن حين أقارن تلك الأيام بحالنا اليوم، تصيبني حالة من الحزن. بعض زملائي الآن في القبور والبعض الآخر في السجون وبعضهم هاجر غصبًا وقهرًا مثلي".

سألناه: "ولماذا لا تفكر في العودة؟"، أجاب بسرعة: "مستحيل.. أنا وجه معروف وقد تُلفق لي قضايا كما حدث لكثيرين، روحي معلقة بالوطن لكن لا يمكنني العودة".

أما (م.ر) فهو طبيب مقيم في إحدى الدول الأوروبية، وقد حدثنا: "فكرت في الخروج من مصر عام 2009 حين كنت في سنة الامتياز في كلية الطب، زرت البلد الذي أقطنه الآن ورأيت الفارق الكبير بين الأسلوب التدريبي في مصر والخارج، ففي مصر تعم الفوضى بينما هناك نظام جيد للعمل".

يضيف: "بعد الثورة تغير الوضع تمامًا، كان كلي أمل أن أستطيع أن أعود إلى البلد بما تعلمته، وكنت ممتلئًا رغبة كبيرة في التغيير للأحسن، تركت مدينتي وسافرت للقاهرة لأشارك في الثورة في ميدان التحرير وقتها وحضرت عدة أحداث تلت، مثل أحداث محمد محمود، وكنت مندوبًا في إحدى لجان انتخابات مجلس الشعب، والانتخابات الرئاسية، لكن تصادف أن انتهت أوراقي قبل 30 يونيو/حزيران بفترة قصيرة، تفاءلت لبعض الوقت من منطلق وجود شخصيات يثق فيها الناس بالمشهد العام مثل البرادعي وبعض الشباب، لكن الثقة اهتزت بعنف مع مذبحة الحرس الجمهوري، وانتهت تمامًا بأحداث رابعة، من وقتها وأنا أصب كل تركيزي على العمل فقط وأهرب من الحديث في الشأن السياسي".

(م.ر) يرى أيضًا أن الثورة حلم لم يكتمل بسبب عدم تمكين الشباب منها، وبسبب أن الخلافات الشخصية بين الثوار كانت أساس الفشل.

يرى بعض المصريين أن الثورة حلم لم يكتمل بسبب عدم تمكين الشباب منها، وبسبب الخلافات الشخصية بين الثوار التي طغت على كل شيء

"كيف ترى الوطن؟"، يقول في مرارة: "لم أغب عنه لحظة، يقول عني المصريون هنا أنني أكثرهم مصرية، الأغاني، الطعام، الأفلام.. كل ما يمكن أن يربطني بمصر، لكن المأساة أنني ورغم كوني أجنبيًا هنا إلا أنني مطمئن على حقوقي أكثر من اطمئناني عليها كمواطن في بلدي".

البعض الآخر يرتبط بمصر ارتباطًا مركبًا ومعقدًا بحيث يكون مشروع الاستقرار صعبًا ومشروع الهجرة صعبًا أيضًا، كحالة (ر.غ)، الطالبة بإحدى الجامعات الأوروبية، والتي تقول: "لم أكن أفكر في الهجرة لكني الآن بت أفعل، لكن الأمر معقد، فأنا هنا أدرس سياسات عامة ودرست قبل أن أترك مصر علم الاجتماع السياسي، أنا مشروعي الدراسي مرتبط بمصر وإبان الثورة حلمت بالعودة، بعد انتهاء دراستي، بخطط ومشاريع طموحة، الآن أشعر أني تائهة فماذا سأفعل بتخصصي بعد التخرج في مصر؟ لا أدري". وتستطرد: "لا أفكر مطلقًا في الزواج أو تكوين أسرة في مصر، لكني من الناحية الأخرى لا أستطيع العيش دون أهلي وأصدقائي، رغم كل الجنون الذي يحدث الآن. أتمنى لو كان بيدي أن آخذ كل أحبائي معي.. لكن هذا مستحيل".

(ي.ك) تعيش أيضًا بالخارج وتقول: "الثورة كانت حلم تغيير ولكن الجيش قاد الحلم في النهاية إلى هذا المصير، ولكن الشعب في 2011 كان أكثر وعيًا من شعب يوليو عام 1952 فاشتغل على الأرض ولكن في النهاية عدنا إلى نقطة الصفر".

اقرأ/ي أيضًا: السلطة المصرية تطارد "أشباح يناير" في المقاهي

الثورة كان لها دور في تغيير مسار حياة البعض ممن اتسمت حياتهم بالكفاح منذ بدايتها مثل الطالب (م.ن)، الذي يدرس بإحدى الجامعات الأوروبية، فيقول لـ"ألترا صوت": "كان كل حدث في الثورة يمثل محطة رئيسة في حياتي، كنت قدمت على إحدى المنح التابعة لوزارة البترول المصرية بالتعاون مع إحدى الجامعات الآسيوية وفي يوم التنحي يوم 28 شباط/فبراير 2011 جاءتني مكالمة تعلمني بضرورة تجهيز نفسي للسفر إلى البلد الآسيوي للدراسة، كنت وقتها أشعر بحماس كبير لأن الأجواء كانت ثورية وحماسية وقررت أن أسافر للدراسة ولأعود إلى بلدي لأخدمها بما تعلمت، من 2011 إلى 2015 كنت في البلد الآسيوي أدرس هناك وأزور مصر في الإجازات، وفي كل مرة تكون الإجازة شاهدة على حدث جلل، مثلاً أيلول/سبتمبر 2011 أحداث ماسبيرو، والمرة التي تليها شتاء 2012 أحداث شارع محمد محمود وأحداث استاد بورسعيد، وعلى الرغم من كراهيتي لفكرة وصول جماعة الإخوان للحكم إلا أنني كنت أرى أن هذا هو طريق الديمقراطية، وفي الأول من آيار/مايو 2013 كانت الإجازة التي غيرت حياتي".

يستطرد: "كنت أحاول عمل زمالة في إحدى الشركات في منطقة العاشر من رمضان، وكنت أسافر من بلدتي كل يوم إلى هناك وهي مسافة تعادل تقريبًا ثلاث ساعات، قضائي الوقت في المواصلات بين الناس جعلني أسمع منهم وأرى ما أثار توجسي وقلقي فليست هذه مصر التي قامت الثورة فيها ولا الأفكار التي يتداولها الناس هي التي من أجلها ضحى شباب بأرواحهم. وفي الثالث من يوليو انقطعت الطرق، وخُلعت قضبان السكة الحديدية وعدت من منطقة العاشر من رمضان إلى بلدتي في عشر ساعات. بعدها، ولأني كنت مغفلًا، تخيلت أن الأوضاع ستتحسن لأن حكم الإخوان لم يكن مثاليًا".

يضيف (م.ن): "كنت قد استأجرت شقة وتشاء الأقدار أن تكون في منطقة المركز التجاري الكبير "سيتي ستارز" وكنت بالتالي قريبًا مما حدث في رابعة، كان هذا غير متابعة الأمر على التلفاز، ونتج عنه أن قررت أن أنسى العودة إلى الوطن أو الاستقرار فيه على الأقل الآن، حالفني التوفيق خارجًا وأتمنى أن يتحسن الحال في مصر".

هناك دائمًا أمل واقعي في مستقبل أفضل لمصر ولكن الاحتمالات تتعاظم أو تتضاءل بناءً على حركة الشعب وطليعته الثقافية والسياسية

آخر شخص تحدثنا معه، ترك القاهرة، كان أديبًا وشاعرًا، فتح لـ"ألترا صوت" قلبه وتحدث معنا باستفاضة، سألناه هل هناك أمل فرد: "هناك دائمًا أمل واقعي في مستقبل أفضل لمصر ولأي بلد في العالم يعاني ظروفًا سيئة من القهر والفقر وسوء الأوضاع، ولكن احتمالات هذا الأمل تتعاظم أو تتضاءل بناءً على حركة الشعب وطليعته الثقافية والسياسية، فإذا نظمت قوى الشعب جهودها وأصرت على جلب حقوقها وفرض إرادتها بكل الوسائل الممكنة صار هذا الأمل قريبًا من الأيدي، أما إذا ركنت تلك القوى للتشتت والتكاسل والتقاعس والانهزام والشعور باليأس وانعدام الجدوى والتقدير الاستباقي للخيبة فإن هذا يفاقم من سوء الأوضاع ولا يساعدنا على التحسن".

أما عن رؤيته المستقبلية، فهو "يتوقع مزيدًا من العجز الحكومي عن تلبية احتياجات الناس، وانسدادًا أكبر في الأفق السياسي قد لا تستتبعه ثورة بالضرورة ولكن قد يؤدي إلى تبني أفكار مبتكرة للتغيير". سألناه فيما أخطأ الثوار فأجاب: "أخطأ الثوار بالخصام مع السياسة، والمزايدة على كل من يتبع المسارات السياسية الهادئة جنبًا إلى جنب مع الاحتجاج، فالاحتجاج حالة عابرة أما بناء القواعد السياسية الحقيقية فهو الذي يمكث في الأرض لأي تيار، وأخطأنا بأننا لم نعرف لقلة الوعي والخبرة متى نندفع ومتى نتمهل ومع من نتحالف ومتى؟ ورغم أن الكثير من الشباب الثوري كانت لديهم أفكار عصرية مناسبة فإنهم لم يعرفوا كيف يروجوا لها لابتعادهم عن الناس، وتعاليهم على الجمهور في بعض الأحيان، كما أن المبالغة في المثالية والبحث عن الحلول الجذرية والفورية والنهائية جعلت الثوار كالطفل الذي وضع يده في إناء الحلوى وهو يريد أن يأخذ أكثر مما تتسع يده في الواقع، فانحشرت يده في الإناء ولم يحصل على شيء".

ويضيف: "أما الإسلاميون وهم الجناح الآخر الذي شارك في الثورة، فقد أخطؤوا في مرحلة ما قبل الثالث من يوليو بالتعالي على جميع التيارات الأخرى والتحالف مع التيارات الأكثر أصولية وتشددًا وتبنيهم أفكارها المتأخرة كثيرًا عن متطلبات اللحظة التاريخية، فانصرف عنهم الناس وتحولوا إلى مصدر فزع يوحد الجميع ضده. أما في مرحلة ما بعد الثالث من يوليو فقد أخطؤوا بالتمادي في العزلة والاستعلاء ظنًا منهم أنهم يمكنهم أن يكونوا وحدهم الثورة، وبدلًا من أن يراجعوا أفكارهم وخطابهم المتأخر كثيرًا عن العصر انصرف فريق منهم إلى مزيد من التشدد والعصبية، وذهب فريق آخر إلى تبرير تمترسهم المعرفي في هذا الموقع ملقيًا باللوم كله على الآخرين ومتهمًا إياهم بما فعلوه وما لم يفعلوه".

اقرأ/ي أيضًا:

عزمي بشارة.. الحفر في الثورة المصرية (1- 2)

عزمي بشارة... تحولات الثورة المصرية (2- 2)