17-يناير-2017

أفيش فيلم الراهبة 1965

من الممكن ربط عدم ظهور الرهبان والراهبات في السينما المصرية بشكل مكثّف أو على أقل تقدير بشكل ينسجم مع تأثيرهم على الأقباط من واقع قيمتهم الدينية، بأنه نتاج طبيعي لتردد صنّاع السينما في الحديث عن الأمور الدينية، إسلامية كانت أم مسيحية، بشيء من التفصيل والتدقيق، لما يُسبّبه ذلك من حساسية شديدة لدى المتلقين، أيًا كانت طبيعة التناول، خصوصًا في السنوات الثلاثين الأخيرة التي صارت فيها الأعصاب مكشوفة وبات الجميع متحفّزين لاصطياد أي معالجات فنية حول الأديان، بعد نجاح المؤسسات الرسمية والتغيّرات المجتمعية الحادة في إنهاء أي محاولة جادة لنقاش وعرض القضايا المحلية المُلِحّة المرتبطة بفكرة التعايش الديني والتعاطي الإيجابي مع احتواء مصر على ذخيرة إثنية ودينية ومذهبية.

ولكن يبدو أن هذه هي طبيعة الأمور في مصر، فالقيود المفروضة على صناعة السينما لا تنفصل عن القيود التي تطال كل شيء آخر وتعتدي على الحقوق الأساسية للمصريين.

البعض يعتبر "الراهبة" فيلمًا تجاريًا وفي أفضل الأحوال فيلمًا لحسن الإمام حافظ فيه على توليفته من إثارة وإغراء وميلودراما

فإذا كان الظهور المسيحي في السينما المصرية قليلًا نوعًا ما، فهو فيما يتعلّق بالرهبان والراهبات نادر بكل تأكيد، حتى إنه من الصعب رصد فيلم يتناول حياة الرهبان أو يظهرون فيه بشكل مؤثر على الأحداث باستثناء فيلم وحيد ظهر في عام 1965، وكان من بطولة نجمة الإغراء في ذلك الزمان هند رستم.

"الراهبة"، كان عنوان الفيلم النادر والذي أخرجه حسن الإمام بعد عام واحد من فيلم "شفيقة القبطية"، والذي كما هو واضح من عنوانه شهد حضورًا رئيسيًا لشخصية قبطية في حكايته، وقامت بدورها أيضًا هند رستم، ولكن من دون أن يحمل كثيرًا من التفاصيل المرتبطة بالدين المسيحي أو يظهر فيه أي رهبان أو راهبات.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "أهلًا بكم في هارتمان".. حرب على التنميط

وفي الحقيقة، يبدو أن الأمر بأكمله كان عبارة عن نوبة حماس مفاجئ انتابت السينمائيين أو تنفيذًا لتكليف رسمي من نوع ما، ومما يدعم هذا الرأي أنه في عام 1965 شهدت مصر ما يمكن اعتباره أول اعتداء طائفي على دار عبادة مسيحية في تاريخها الحديث حين قام متطرفون بالاعتداء على كنيسة بإحدى قرى مدينة الأقصر في صعيد مصر، وكان من نتائج ذلك الاعتداء غير المباشرة إنشاء "الكاتدرائية المرقسية" التي ستصير مقرًّا رسميًا لبابا الكنيسة الأرثوذكسية المصرية.

ورغم أن البعض يعتبر "الراهبة" فيلمًا تجاريًا أو في أفضل الأحوال "فيلمًا آخر من أفلام حسن الإمام" حافظ فيه على توليفته السينمائية الخاصة من إثارة وإغراء وميلودراما وفيرة، لكن يبقى أن "الراهبة"، الذي شارك في بطولته يوسف شعبان وشمس البارودي، هو الفيلم الوحيد في تاريخ السينما المصرية الذي يتضمن مشاهد دينية مسيحية صرفة لم تظهر من قبل ولا من بعد في شريط سينمائي، مثل خطوات ترسيم الراهبة في الدير وما يصاحب ذلك من طقوس، حتى وإن جاء ذلك في المشاهد الختامية أثناء لملمة الفيلم لحكايته ودمغها بالمورال الأخلاقي المعتاد.

الفيلم أصلًا يحكي حكاية تصلح للناشئة من أطفال مدارس الأحد في الكنيسة، حيث نتابع رحلة فتاة مسيحية عاشت محنتها الخاصة بين فتنة الحياة وتجربة حب فاشلة لتقرر في النهاية أن تتحوّل إلى الرهبنة في نفس اليوم الذى يتزوج فيه حبيبها من أختها!

وبعيدًا عن هذا الفيلم، من الصعب رصد فيلم آخر يحتوي رهبان وراهبات بشكل مؤثر في أحداثه أو يقترب بشيء من التفصيل من حياتهم الخاصة التي تخفي أسرارها عن كثير من المسلمين والمسيحين على حدٍ سواء.

غير أن ثمة معلومات تفيد بأن المرة الأولي فى تاريخ السينما المصرية التي سُمح فيها بظهور حياة الرهبان على الشاشة كانت من نصيب فيلم من بطولة رشدي أباظة حمل اسم "الراهب"، ولكن المشروع لم يكتب له النجاح، بسبب ظروف إنتاجية. ولم يتبق منه سوى صورة يتيمة يظهر فيها أباظة في زي الرهبان.

إذا كان الظهور المسيحي في السينما المصرية قليلًا نوعًا ما، فهو فيما يتعلّق بالرهبان والراهبات نادر بكل تأكيد

ويبدو أن ذلك أمر لا يتحكّم فيه المزاج العام وحده، وإنما يتعلّق كذلك بالسياق العام ومعادلة الرموز والقوى لدى الأقباط والمسلمين والعلاقة بينهم، مثلما حدث مع الفنان عادل إمام في عام 2007 حين حاول تقديم شخصية قِسّيس في فيلم "حسن ومرقص"، وقوبلت رغبته بالرفض من قبل البابا شنودة شخصيًا، بحجة أنه لا يمكن للقسّ أن يتخلّى عن ملابس الكهنوت طوال حياته على عكس مجريات أحداث الفيلم، فتم تغيير الشخصية إلى أستاذ لاهوت!

أمر مشابه لا تزال آثاره حاضرة إلى الآن ويتمثّل في تعطّل إنتاج فيلم "الراهب" منذ أكثر من سنتين لأسباب غامضة. والفيلم من تأليف مدحت العدل وإخراج هالة خليل وبطولة هاني سلامة، وتدور قصته حول شاب مسيحي يدرس علم اللاهوت ويستعد للرهبنة، وهو ما يعتبره صنّاع الفيلم تجربة مهمة تتعرّض لقضية شائكة من خلال سيناريو يرصد عددًا من المشكلات التي يواجهها الراهب الشاب.

ولا ينفصل ذلك عن الجدل الذي أثير قبل شهور قليلة حول تقديم شخصية البابا شنودة الثالث في مسلسل تلفزيوني، وحينها أصدرت الكنيسة المصرية بيانًا رسميًا غاضبًا ألمحت من خلاله إلى رفضها تقديم أي عمل درامي يستلهم حياة البابا الراحل وأكدت ضمنيًا على وقوفها في مواجهة أي محاولة من هذا النوع مستقبلًا، حيث اعتبرت في بيانها أن الراهب الراحل، الذي شغل منصب بطريرك الإسكندرية لنحو 4 عقود، جزءًا لا يتجزأ من تراثها الذي لا ينبغي أن يُمسّ دون موافقتها وإشرافها.

اللافت أن بيان الكنيسة جاء بعد تسريبات إعلامية عن مشروع درامي يعتزم الفنان حسن يوسف تنفيذه حول حياة البابا، لكن يوسف سرعان ما تبرّأ من الفكرة تحت ضغط الهجوم الشديد الذي أتبع إعلان الفكرة، معتبرًا أنها كانت مجرد إبداء نوايا، ولكنه لن يقدم على الخطوة دون موافقة الكنيسة وبتمويلها وتحت إشرافها.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "أنا أولغا هيبناروفا": لأنني ضحية بهيميتكم

والثابت، أن موقف الكنيسة المتحفظ فيما يتعلق بتقديم شخصية المسيحي المصري في الأعمال السينمائية والتلفزيونية متصل ومرتبط بالعلاقة مع النظام الحاكم، فلا يستغرب المرء في فترات الجفاء بين الكنيسة والنظام أن يسمع خبرًا عن نية أحدهم لعمل فيلم عن الأب متى المسكين (ومجرد ذكر اسمه فقط في الأوساط المسيحية المحافظة كفيل بتوتر الأجواء)، وكذلك يكون مفهومًا دحر أية محاولة لإنجاز مشروع لا ينال رضا الكنيسة في الوقت الذي تمرّ فيه بعلاقة طيبة مع النظام، على الرغم من وجود أصوات مسيحية معارضة ومتمردة على هذا النهج الفكري المتزمّت للكنيسة.

موقف الكنيسة المتحفظ بتقديم شخصية المسيحي المصري في الأعمال السينمائية والتلفزيونية متصل ومرتبط بالعلاقة مع النظام الحاكم

على العكس من ذلك، فإن السينما العالمية، والأمريكية تحديدًا، تعاملت مع ظهور الرهبان والراهبات على الشاشة بشكل فيه قدر كبير من التيسير والتسامح، لدرجة أن واحد من أشهر هذه الأفلام كان كوميديًا من طراز فريد وأعني فيلم "Sister Act" (1992) من بطولة النجمة السمراء ووبي جولدبرج، وفيلم آخر حديث ومشهور نسبيًا هو "Doubt" (2008) من بطولة النجمة ميريل ستريب، الذي شهد تقديمًا جريئًا لفكرة الشك الوجودي لدى إحدى الراهبات الأمريكيات.

هذا من دون الإشارة إلى عشرات الأفلام الأوروبية التي تنوّعت فيها ظهورات الرهبان والراهبات وطرق مقاربة حياتهم والتعامل معهم باعتبارهم بشر يقومون بارتكاب الأخطاء والجرائم أحيانًا. نظرة واحدة على طريقة تعامل السينما العالمية مع رجال الدين بهذا الشكل الذي لا يقف عند الحدود والقيود والحواجز التي تفرضها السلطات الدينية عادةً، ومقارنة ذلك بالشحّ الكبير الذي تعانيه السينما المصرية من تناولها للشخصية الدينية بشكل عام وللرهبان والراهبات بشكل خاص، يكشف أن الفارق ربما يكون في درجة التسامح الديني والانفتاح الفكري وقوة الثقافة التي تقبّل النقد والانتقادات والمبالغات الدرامية وإزالة القدسية المبالغة التي تُفرض على بشر، في النهاية، ليسوا آلهة.

اقرأ/ي أيضًا:
فيلم "شيطان النيون".. عن تماهي الجمال بالموت
فيلم "هي".. الاغتصاب كغريزة معكوسة
6 من أجمل الأفلام التي شاهدتها في 2016