12-ديسمبر-2016

تعود الكاتدرائية المرقسية إلى تاريخ من التسامح بين المصريين (NurPhoto)

حدث في منتصف الستينيات من القرن الماضي أن قام متطرفون بالاعتداء على كنيسة بإحدى قرى مدينة الأقصر في صعيد مصر. كان هذا الأمر غريبًا على البلد في ذاك الحين. كلّف البابا كيرلس السادس (1959-1971) الأب صموئيل، أسقف الخدمات، بمتابعة الموضوع مع كبار مستشاري الرئيس جمال عبد الناصر خاصة الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل. وتمّ الاتفاق على أن تعبّر الدولة بصورة أو بأخرى عن مسؤوليتها تجاه الأقباط كمواطنين مع الالتزام بحمايتها لممتلكاتهم وكنائسهم. ومن ثمّ تحوَّل حادث الاعتداء على كنيسة من مسألة طائفية إلى قضية قومية تمسّ هيبة الدولة وسيادتها.

بنيت كاتدرائية الأقباط بمساعي البابا كيرلس السادس وبمساندة الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر

كان البابا كيرلس يتطلّع حينها إلى بناء كاتدرائية كبرى تليق بمكانة الأقباط المصريين فى العالم المسيحي، لا سيما أن ذكرى مرور 19 قرنًا على استشهاد القديس مرقس، مؤسس المسيحية في مصر، كانت تقترب، وبالتحديد كانت توافق عام 1968. اتفق مستشار الرئيس مع ممثل البابا على أن يقوم البابا بزيارة الرئيس جمال عبد الناصر في منزله، وفي هذه الزيارة وعد عبد الناصر البابا أنه سيشارك بوضع حجر الأساس لكاتدرائية كبرى بالعباسية، مع مساهمة الدولة بمبلغ 100 ألف جنيه لإتمام هذا العمل العملاق، وهو مبلغ ضخم حسب قيمة النقد في ذلك الزمان.

اقرأ/ي أيضًا: مصر.. استهداف أكبر كنيسة مصرية بتفجير إرهابي

في تموز/يوليو 1965، قام الرئيس عبد الناصر إلى جانب البابا بوضع حجر الأساس للكاتدرائية، في إطار الاحتفال بعيد الثورة، وألقى الرئيس خطابًا تاريخيًا بليغًا انطوى على الطمأنينة للأقباط والردّ الضمني على المتطرفين، وجاء فيه: "الثورة قامت على المحبة، ولم تقم بأي حال على الكراهية والتعصّب. الثورة قامت وهي تدعو إلى المساواة وتكافؤ الفرص والمحبة. المحبة وتكافؤ الفرص نادت بها الأديان السماوية، لأننا بالمحبة والمساواة وتكافؤ الفرص نستطيع أن نبني المجتمع الصحيح السليم الذي نريده، والذي نادت به الأديان السماوية".

وعن المساواة وتكافؤ الفرص قال عبد الناصر: "عندنا مساواة تامة، لا فرق بين ابن الوزير وابن الغفير. رئيس الجمهورية والحكومة مسؤولون عن كلّ واحد مهما كانت ديانته، لا فرق بين مسلم ومسيحي في المدارس والجامعات، هم بيدخلوا بالمجموع، والتعيين في الحكومة والقضاء بالأقدمية. كلّ واحد بياخد دوره. سلاحنا في تأمين الوحدة الوطنية هو المساواة وتكافؤ الفرص".

واستكمل حديثه مؤكدًا هذه النقطة بقوله: "بالمحبة والإخاء وبالمساواة وتكافؤ الفرص نستطيع أن نخلق الوطن القوي". مضيفًا: "أنا كرئيس للجمهورية مسؤول عن كل واحد في هذا البلد مهما كانت ديانته، ومهما كان أصله أو حسبه أو نسبه، وإحنا مسؤولين عن الجميع، إحنا مسؤولين عنهم قدام ربنا يوم الحساب. الدولة لا تنظر للدين، والمجتمع لا ينظر إلى الدين، ولا ينظر إلى الأب، ولا ينظر إلى الأصل، ولكن ينظر إلى العمل وإلى الجهد وإلى الإنتاج وإلى الأخلاق، وبهذا نبني فعلًا المجتمع الذي نادت به الديانات السماوية التي نصّ الميثاق على احترامها". واختتم عبد الناصر خطابه بالقول: "أرجو من الله أن يدعم المحبة بين ربوع هذا الوطن، وأن يدعم الإخاء، وأن يوفقكم جميعًا".

اقرأ/ي أيضًا: "حسم".. كلمة السر في إرهاب شارع "الهرم"

فاقت تكاليف إنشاء الكاتدرائية المرقسية إمكانات البطريركية المصرية، فنشطت حملة لجمع التبرعات. ولما رأى عبد الناصر بطء الأعمال الإنشائية، تبرّع من ميزانية الدولة بمبلغ 50 ألف جنيه، فضلًا عما سبق التبرع به (100 ألف). وفي إحدى المرّات كان البابا في زيارة للرئيس في منزله، فما كان من أبناء الرئيس إلا أن قاموا بإفراغ حصالاتهم وإعطاء ما بها للبابا، مساهمة منهم في هذا "المشروع القومي المصري".

فاقت تكاليف إنشاء الكاتدرائية المرقسية إمكانات البطريركية المصرية، فنشطت حملة لجمع التبرعات

وفي بريد جريدة "الأهرام"، في عددها الصادر صبيحة يوم 10 آيار/مايو 1990، أرسل مواطن مصري مسلم الديانة رسالة ملخصها: "كنا تلاميذ في مدرسة ابتدائية بالعباسية، حين جاء إلينا مدرس اللغة العربية والدين، وهو شيخ، قائلًا إن "إخواننا المسيحيين يبنون كنيسة كبرى فى مكان مجاور، وهم يجمعون تبرعات لبناء هذه الكنيسة، إن الكنيسة بيت من بيوت الله، ومن يساهم منا فى بنائها كأنه يساهم فى بناء مسجد"، فأخذنا نتسابق في التبرع بمصروفنا، ولما اكتملت تبرعاتنا الزهيدة، رتّب لنا المدّرِس لقاء مع البابا لتقديم المبلغ له.

وقد استقبلنا البابا أفضل استقبال وتأثّر بلقائنا وبما قدمناه من مبلغ بسيط. ولما لاحظ البابا ارتباكنا حيال اللقب الذي نخاطبه به قال لنا "قولوا لي يا شيخ كيرلس"، فرد الشيخ المصاحب للأولاد: "وأنا أبونا علي"، وهكذا تبادل رجلا الدين الألقاب في محبة ومودة بالغة وفي روح من الدعابة والمرح"، ويختتم صاحب الرسالة بالقول: "إنني أهدي هذه القصة لمن يتصورون أنهم يخدمون دينهم بالإساءة لدين الآخرين، وأقول لهم إن مصر ستبقى بلد المحبة والتسامح وبلدًا لكل المصريين".

لا شك أن بناء الكاتدرائية المرقسية واحد من أعظم أعمال البابا كيرلس، إن لم يكن أعظمها على الإطلاق، وكانت شركة النيل العامة للخرسانة المسلحة "سبيكو"، التابعة للقطاع العام، قد قامت بحفر الأساس في آب/أغسطس 1967. وبالتوازي مع الأعمال الإنشائية، كانت الكنيسة القبطية تجري مفاوضات مع كنيسة روما بغية استعادة جزء من رفاة القديس مرقس، وكان بحّارة من مدينة فينيسيا قد نقلوه إلى مدينتهم عام 825م ليستقر في كاتدرائية هناك. وقد وافق الفاتيكان على هذا الطلب ليتم تنفيذه مع افتتاح الكاتدرائية، الذي يوافق مرور 19 قرنًا على موته.

وفي 25 حزيران/يونيو 1968، تم الافتتاح بحضور الرئيس جمال عبد الناصر والإمبراطور الأثيوبي هيلا سيلاسي، كما حضر مندوبون عن أغلب كنائس العالم، وكانت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وهي تحت الحكم الشيوعي، قد أهدت الكنيسة المصرية بعض تجهيزات هيكل الكاتدرائية، وأهدت كنيسة روما الرخام والكنيسة المُصلحة بالولايات المتحدة الأجهزة الصوتية الحديثة. وتجدر الإشارة إلى أن عبد الناصر لم يلق كلمة في هذا الحفل، بيد أن كارثة حرب 1967 قد ألقت بظلالها على المزاج المصري العام، وكانت ذكراها الأولى تمرّ إبان حفل الافتتاح، لكن مرارة الذكرى لم تمنع الرئيس من الحضور الشخصي.

وفى اليوم التالي، شاركت الوفود الكنسية والإمبراطور هيلاسيلاسي فى القداس الأول بالكاتدرائية، وكانت كنيسة الحبشة تخضع لكنيسة الإسكندرية آنذاك. وعلى مدار اليومين التاليين قامت الوفود بزيارة أديرة وادي النطرون ومدينة الإسكندرية، أصل المسيحية فى مصر. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الوفود الكثيرة قد نزلت في ضيافة الحكومة المصرية تقديرًا من الدولة لأهمية الحدث وللكنيسة القبطية.

في كتابها الوثائقي الضخم "قصة الكنيسة القبطية "، تروي المؤرخة إيريس حبيب المصري أنها عند عودتها من حفل الافتتاح استقلت تاكسي، ولما علم السائق أنها عائدة من حفل افتتاح الكاتدرائية قال لها إنه تابع الحفل عبر الإذاعة المصرية، وإنه شعر بسعادة بالغة حين ألقى كلمة البابا مطران سوهاج، لأنه سوهاجي، إذ اعتبر السائق نفسه أنه ابن من أبناء مطران سوهاج رغم أنه مسلم الديانة، وهكذا أسقط الانتماء للأرض الحواجز الدينية، وتوحّد المصريون في أفراحهم، دون أن يكون للتعصب والتطرف مكان فى الساحة المصرية في ذلك الزمان، ولو ظاهريًا على الأقل.

اقرأ/ي أيضًا:

مصر..حقيقة براءة الطالب أحمد مدحت

بأمر البابا..أقباط المهجر سيصفقون للسيسي في أمريكا