14-نوفمبر-2021

مزارعات تونسيات 2019 (Getty)

في زمن تدفق موجات الهجرة غير الشرعية والهجرة الريفية إلى المراكز الحضرية بحثًا عن تحسين الأوضاع الاقتصادية، بات الريف التونسي عرضة لاختلال اجتماعي خطير، يتمثل في هجرة الرجال المتعاظمة، وتحول المجتمع شيئًا فشيئًا إلى مجتمع نسائي. لكن هذا التحول لا يعكس تقدمًا في مستويات المعيشة والثقافة والإنتاج، بل يبدو كما لو أن نساء الريف التونسي يواجهن تصحر الريف واختلاله اجتماعيًا، ويعانين من انسداد الآفاق وما يمكن أن نسميه هجرة المستقبل.

يشهد الفضاء الاجتماعي الريفي تأنيثًا متسارعًا لقوة العمل، وخاصة في المهن الهشة وغير المهيكلة. فاليد العاملة في المصانع والعمل الفلاحي والعمل الحرفي هي يد نسوية

عالم الريف الذي يحضر في الخيال كاستمرارية رمزية للسكينة والهدوء والبساطة والجمال والقيم، يعيش اليوم تحولًا في الأدوار والمواقع. ويخوض معركته الخاصة من أجل البقاء والاستمرارية مستندًا إلى سواعد النساء وعرقهن.

اقرأ/ي أيضًا: التونسيات.. لا جدران مع الفضاء العام

لقد أصبحت اليوم قوة العمل الريفي في تونس وإنتاجيته متشكلة أساسًا من العاملات الريفيات "إذ تشير إحصائية للاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري إلى ارتفاع نسبة الفلاحين المتخلين عن ممارسة النشاط الفلاحي، حيث "لم يتبق منهم سوى 12 ألف فلاح في سنة 2018". وهذا الانهيار المستمر لقوى الإنتاج الريفية تعوضه جزئيًا العاملات الريفيات، رغم ما يصاحب محاولة التعويض هذه من تهميش وحرمان وتفاقم للفقر والعوز.

وغالبًا ما تصاحب مسيرة التهميش هذه أخطار متزايدة على حياة النساء، خلال انتقالهن إلى العمل وعودتهن منه. وفي نيسان/أبريل الماضي لقيت 12 عاملة حتفهن وجُرحت أكثر من 15 جراء اصطدام شاحنتين مفتوحتين كانتا تقلان عاملات زراعيات بولاية سيدي بوزيد، وهذه الحوادث تتكرر في المناطق الريفية، ويؤدي إهمال الحكومة لواجباتها في تأهيل البنى التحتية إلى زيادة وتيرتها على نحو خطير.

يمكننا القول إننا أصبحنا اليوم في مواجهة واقع اجتماعي يلزمه الكثير من التفكير والتفحص، حيث يشهد الفضاء الاجتماعي الريفي تأنيثًا متسارعًا لقوة العمل، وخاصة في المهن الهشة وغير المهيكلة. فاليد العاملة في المصانع نسوية والعمل الفلاحي نسوي والعمل الحرفي نسوي، ولا يمكن أن نتطرق إلى موضوع المرأة الريفية في تونس من دون أن نعترف بإشكالية هذه الظاهرة الاجتماعية المستجدة والمستعصية، والتي تحتاج إلى دراسة معمقة حول الوضع المعيشي للنساء وعائلاتهن والتغيرات الاجتماعية الهائلة التي تصيب التركيبة السكانية في الريف.  

في ثمانينيات القرن الماضي كان حضور المرأة الريفية العاملة مرتبطًا بدورها المساعد للرجل. ترافقه في مواسم الجنى والحصاد، وتسند إليها في العادة الأعمال الوضيعة، كتنظيف مرابض الحيوانات، أو إجهاد النفس في التقاط بقايا الثمار التي يخلفها الرجل وراءه. ومع الأيام تغيرت الأدوار، وانقلبت رأسًا على عقب، خصوصًا في السنوات الأخيرة، فقد أصبحت المرأة أجيرة تقدم بنفسها خدمات فلاحية متنوعة تضاهي، وتتفوق في الكثير من الأحيان، على ما كان يقوم به الرجل. فقد أشارت دراسة أنجزتها الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات سنة 2014 حول ظروف العمل الفلاحي للنساء في الوسط الريفي، إلى أن العاملات الفلاحيات يمتهن أعمالًا شاقة ومتنوعة، من بينها الجني والبذر واقتلاع الطفيليات وحمل المحصول على أكتافهن والحرث في بعض الأحيان.

هذه المتغيرات ساهمت في تهميش المرأة الريفية أكثر، لأنها باتت متروكة في الفضاء الاجتماعي غير المرغوب فيه من الجميع، والذي يسعى كل من فيه إلى الهجرة منه. وبمعنى آخر، لا تحل المرأة في الريف مكان الرجل، بل هي تحل مكان الفراغ الذي يخلفه. ما أدى شيئًا فشيئًا إلى تأنيث المهن غير المهيكلة، وخصوصًا العمل الزراعي، التي باتت تجذب اليد العاملة النسائية. ومع هذا التأنيث المتمادي لقوة العمل في الأرياف بات الفقر في تونس صفة تخص النساء أكثر من الرجال.

لا تحل المرأة التونسية في الريف مكان الرجل، بل هي تحل مكان الفراغ الذي يخلفه

لكن الموت الذي تسببه الحوادث المتكاثرة ليس هو الموت الأخطر الذي يواجه المرأة الريفية. فالموت الاجتماعي والإهمال والنسيان، غالبًا ما يسبق حالة الموت البيولوجي التي باتت النهاية الحتمية لحالة التهميش والمعاناة التي تصبغ المعيش اليومي للنساء الريفيات والتي تدفعهن إلى اختبار الموت الاجتماعي عبر حشرهن في إطار المهن المهجورة وغير المرغوب فيها.

اقرأ/ي أيضًا: أمهات ملونات بالأسى

العاملات الريفيات في تونس أعيتهن أزمنة الهيمنة واللامساواة، لكنهن انتصرن على أسطورة التفوق البيولوجي للرجل، وأثبتن تماثلهن الكفاحي مع الأرض والطبيعة، وعلى رغم شح بدائل التغيير، والإقامة المديدة في الفقر والحاجة، فإن المرأة الريفية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من المعادلة الاقتصادية في تونس، ولم يعد بالإمكان تجاهلها، لأنها المنتجة الحقيقية "للغذاء"، إلى جانب عدد محدود من الفلاحين الرجال الذين لم يتخلوا عن أراضيهم وما زالوا يكافحون منظومة الاستنزاف العشوائي لمقدرات الريف وموارده.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحبيب السالمي.. بكارة المكان ومجهر الثورة

"ميديا" ربيعة تليلي.. صراخ من أجل الخلاص