14-مارس-2020

تُعرف مدينة المحلة بأنها مدينة عمالية بامتياز (فيسبوك)

بعض المدن تحمل شخصية، وكأن تفاصيلها من لحم ودم وليست مجرد أبنية متراصة، وتظهر هذه الشخصية بجلاء في المقاهي العتيقة، وفي المساجد والكنائس والأبنية القديمة، وفي هوية قاطنيها وفي تاريخها الذي يرفض الموت.

تفرض مدينة المحلة نفسها كأحد أهم المدن المصرية. مدينة صغيرة في قلب دلتا مصر تتوسط المسافة بين مدينتى المنصورة وطنطا، الأكثر شهرة وازدحامًا

بعيدًا عن المدن الشهيرة التي قتلت كتابة وبحثًا، تفرض مدينة المحلة نفسها كأحد أهم المدن المصرية. مدينة صغيرة في قلب دلتا مصر تتوسط المسافة بين مدينتى المنصورة وطنطا، الأكثر شهرة وازدحامًا.

اقرأ/ي أيضًا: الجامع الكبير بصنعاء.. فضاء اليمنيين المفتوح قبل الحرب

عند ذكر المحلة، لا بد من ذكر الصناعة الأبرز في المدينة، وهي صناعة الغزل والنسيج التي عانت تهدورًا وانحدارًا كبيرين في سابق السنوات، فبعد أن كانت المحلة قلعة مصنوعات الغزل والنسيج في مصر وربما في الشرق الأوسط، أصبحت اليوم مدينة مقامة على أنقاض هذه الصناعة العريقة، ولكن دون أن تفقد شخصيتها العمالية البارزة.

تعرف المحلة وجود قلاع  كثيرة لصناعة الغزل والنسيج، يأتي في مقدمتها بطابع الأمر شركة مصر للغزل والنسيج، والتي تأسست في عام 1927 كإحدى شركات بنك مصر، برأس مال يقدر بـ300 ألف جنيه مصري، وهو رقم ضخم في حينها كان كافيًا لتأسيس أحد أهم قلاع الصناعة على الإطلاق.

ظروف سياسية كثيرة وأحداث غيرت وجه الوطن ودفعت زراعة القطن إلى الانهيار أودت بالشركة إلى تقليص نشاطها بشكل غير مسبوق، إلى أن وصلت الحال لما هي عليه الآن، مجرد أنقاض تشتم مجد الماضي فلا تستطيع إليه وصالًا.

لا تعد صناعة الغزل والنسيج مجرد صناعة تشتهر بها المحلة، وإنما هى الوجه الأبرز من هويتها وهوية قاطنيها، وعلى الرغم من كل ما عانته تلك الصناعة إلا أن المدينة ظلت محتفظة بشيء من هويتها. وبعيدًا عن المصانع الحكومية التى تآكلت تحت وطأة الروتين ومطالب العمال، العادلة في معظمها، ما زالت المحلة تشهد وجود مئات وربما آلاف مصانع غزل الخيوط والنسيج وصناعة الملابس والمفروشات.

بعيدًا عن وجه المدينة الصناعي، للمحلة وجوه أخرى، نجد الوجه العمالي حاضرًا فيها ولكن بصور مختلفة، سياسية واجتماعية وربما أيدولوجية. يرجع ذلك إلى هوية سكان المدينة الذين يشكل العمال النسبة الأبرز منهم، والذين تعود أصولهم إلى مختلف المدن المصرية.

بدأت قصة أغلب سكان المدينة بترك مدنهم الأصلية بحثًا عن لقمة العيش في مصانع المدينة، ومن ثم الإقامة فيها، مما صنع أجيالًا متعاقبة لم يعرف أغلبها مدنًا غير المحلة، وذلك إلى جانب بعض الإقطاعيين والمزارعين والتجار من السكان الأصليين، مما جعل المحلة تحوى مزيجًا من مختلف الثقافات ساهم في أن يكون لديها دور مؤثر في كل الأحداث المصرية.

على الجانب الآخر، فالمحلة مدينة لا تنام، فأغلب مقاهى ومطاعم ومحال المدينة لا تغلق على مدار الساعة صيفًا أو شتاءً، مما يجعل المدينة تتمتع بالحياة دائمًا، إلى جانب انخفاض أسعار المعيشة، مما جعلها خيارًا مميزًا للإقامة عند أغلب سكان المدن والأرياف المجاورة.

يوجد بالمحلة عدد لا يحصى من المطاعم والمقاهي التي تقدم خدمة مميزة منخفضة الأسعار، وتشتهر المدينة بالمأكولات الشعبية التي يأتى على رأسها الفول والطعمية وذلك بفضل وجود مطاعم شهيرة مثل البغل والإسناوي، التي تمتد شهرتها إلى ربوع مصر كلها كأحد أبرز من يقدم هذه الوجبة على الإطلاق.

كذلك تشتهر المدينة بوجبة لا تقدم في غيرها وهي "سندوتشات" المعكرونة، حيث تقدم المعكرونة في الخبز المصري. احتواء هذه الوجبة على كمية كبيرة من النشويات وقدرتها الكبيرة على سد الجوع جعل البعض يرجح أنها من صناعة العمال والذين تفرض عليهم ظروف العمل القاسية الحاجة إلى طعام غير مكلف لا يستغرق وقتًا كبيرًا في تناوله، وفي ذات الوقت يقضي على الجوع، وهي الرواية التى تجد تأكيدًا بالغًا مصدره هوية المدينة ذاتها.

طابع شعبي مميز جعل المحلة تتمتع بروح من الألفة والود، مما يدفع الزوار إلى اعتيادها بسهولة وكأنها مدينتهم الأصيلة، حيث يتضاءل شعور الغربة أمام صخب المدينة والود الذى يتمتع به أهلها في غالب الأحيان، على الرغم من معدلات الجريمة العالية نوعيًا.

شهدت أغلب المدن المصرية حركة من الهدم أصابت الأبنية القديمة بهدف إزالتها وإحلال الأبراج الإسمنتية شاهقة الارتفاع بدلاً منها. بالطبع لم تسلم المحلة من هذا الخلل العمراني، ولكنها ما زالت محتفظة ببعض الأبنية القديمة مثل مسجد الغمري ومسجد المتولي الذي يعود تاريخ بنائه إلى العصر المملوكي.

اقرأ/ي أيضًا: الإسكندرية "مدينة الرب".. في سوق نخاسة رأس المال

إلى جانب المساجد القديمة يوجد بالمحلة العديد من المساجد التى بنيت حديثًا ولكنها تمتعت بشهرة ذائعة لكبر مساحتها وتميز موقعها. من أهم هذه المساجد مسجد قادوس ومسجد الششتاوي صوفي الطابع ومسجد عبد الحى خليل المعروف لدى أهل المدينة بجامع الباشا.

بعيدًا عن وجه المدينة الصناعي، للمحلة وجوه أخرى، نجد الوجه العمالي حاضرًا فيها ولكن بصور مختلفة، سياسية واجتماعية وربما أيدولوجية

ليست المحلة مجرد مدينة عابرة وإنما مزيج من كل شيء، فيها العمال والأغنياء والأطباء والمهندسون والتجار والزوار، ووسط كل هذا عيون المدينة ساهرة لا تنام، شاهدة على تاريخ كبير وهوية حديثة، يصارع كل منهما الآخر.