04-ديسمبر-2018

كوم الناضورة في مدينة الإسكندرية بمصر (ألترا صوت)

ستترك العنان لخيالك وأنت تسير اليوم في شارع "السبع بنات"، بمدينة الإسكندرية في مصر. وهو الشارع المؤدي في نهايته إلى شارع "بحري بك". وستتساءل في نفسك حينها عن مآلات الناس والبيوت في هذا الشارع، قبل أن تقودك رحلة سيرك إلى "كوم الناضورة"، أو "كوم أبو ناضورة" كما يسميه السكندريون، إذ يحلو لهم نسبة الشيء إلى أبيه، أي نسبته للأصل، حتى وإن كان الأصل أسطورة تجافي الحقيقة، لكنها عادة ما تزين الحيال وتزيد الحكاية إثارة. 

في الطريق إلى منطقة كوم الناضورة بالإسكندرية، ثمة كومة من الحكايات التاريخية، وقصص الصوفية وأولياء الله الصالحين

وفي طريق سيرنا، في أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2018، إلى كوم الناضورة، ثمة كومة من الحكايات والأساطير تعود إلى اليونانيين، ثم تمر على نابليون والاستعمار الإنجليزي، وتتخللها كالعادة قصص الصوفية وأولياء الله الصالحين. وهي حكاياتٌ وقصص ستصدق بعضها لأنك تريد، أو لأنها أعجبتك، وبعضها الآخر حاولنا البحث عن أصله بالتقصي من أبناء المكان الذين أرشدونا في الطريق بالشرح والاستطراد.

اقرأ/ي أيضًا: شوارع وأحياء مصر.. وراء كل اسم حكاية

وكل من سيتحدث عن كوم الناضورة، سيروي لك في حكايته، قصة المبنى المرتفع الذي حلّ لبعض الوقت بديلًا لانهيار الفنارالمعروف، وكان يرشد سفن الغزاة وأهل البلاد على السواء، من البحارة والتجار. لكن أحدًا لم يتناول الطريق إلى كوم الناضورة: المحال والدير وقبور المتصوفة والعادات المرتبطة بالمكان، وأثر الجاليات الأجنبية التي عاشت هنا منذ 70 أو 80 عامًا خلت.

شارع "السبع بنات" مغمور بمياه الأمطار

في الطريق إلى كوم الناضورة.. الراهبات والقناديل وحكايات أخرى

في طريقك إلى كوم الناضورة تمر بشارع طويل يغص بالناس والأسواق والبنايات القديمة والخانات العتيقة. ويسمى الشارع "السبع بنات". ويقع في وسطه تقريبًا مبنى الإدارة التعليمية، وخلفها يقع الدير العتيق الذي أتت منه حكاية السبع بنات. 

والسبع بنات هن راهبات يونانيات، كن يقفن في وسط الطريق القديم في زمن بعيد، بقناديل يحملنها ترشد المارين ليلًا، للسائرين في طريقهم إلى وسط المدينة، أو من وسط المدينة إلى أطرافها في ذلك الوقت، حيث لم تكن هناك أعمدة كهرباء تنير الطريق للعابرين، وكان الغرباء يمضون لياليهم على جنبات الطريق حتى يدركهم نور الصباح.

والمفارقة العابرة للزمان والمستقرة في المكان، أن المنطقة في الوقت الحالي تملؤها محال بيع مستلزمات الإنارة والأدوات الكهربائية.

وللمنطقة الأثرية التاريخية، أثر في طريقة الأولياء الصالحين، ومنهم سيدي شيحة، أو محمد بن سابق شيحة، وهو أحد الصوفية، يُحكى عنه أنه كان أيضًا يحمل القنديل لإنارة الطريق للعابرين. وقال عنه المقريزي في خططه: "من كان يقف بكوم الناضورة يرى قنديل الشيخ سابق وخلوته الموجودة على ربوة مرتفعة عن الأرض أمام البحر"، مضيفًا: "ومما يعرف عنه من كرامات وجود نبع بئر لا ينضب من الماء فيه شفاء للمرضى". أحد سكان المنطقة من الأقدمين قال لنا إن المنطقة مشهورة بالمياه الجوفية، وهي إما كرامة للشيخ سابق شيحة، أو أنها سبب في الماء المتدفق عند ضريح الشيخ شيحة.

محل لصناعة البسطرمة يعود لبعض أفراد الجالية الإيطالية تأسس سنة 1917

ويقع شارع السبع بنات في قلب المدينة القديمة، التي تختلف بعض الشيء عن تلك التي عمّرها محمد علي باشا. وفي الطريق يقابلك شارع يؤدي إلى "شارع حمام الورشة"، الذي يقع فيه مصنع "مكرونة أنطونيو"، وهو أقدم مصانع المعكرونة في المنطقة التي أقامتها الجالية الإيطالية.

وكلما اقتربت من كوم الناضورة، لامست أنفك رائحة نفاذة للبسطرمة، وهو أيضًا من الصناعات التي جلبها الإيطاليون لمصر. "كان الخواجة الطُلياني يعلق البسطرمة بخيط ثخين، وبعد انتهائه من تعليقها، كنا نطلب منه هذه الخيوط لنصنع منها حبلًا طويلًا لطائراتنا الورقية. وكان الخواجة يعطيها لنا"، تقول سيدة مسنة من سكان المنطقة. 

أبو ناضورة بديل الفنار ومقر المستعمر

تعود تسمية كوم الناضورة إلى العصر العثماني في مصر، ويقال إنها جاءت من وظيفة "الناضورجي" أو المُراقب. كما عُرف لبعض الوقت بـ"تل وعلة" نسبة إلى عبدالرحمن بن وعلة السبئي المصري، والذى دفن فيها وقت استخدام التل كمقابر خلال العصر الفاطمي، كما دفن بها عدد من الشخصيات التاريخية الإسلامية مثل الحافظ السلفي وأبو بكر الطرطوشي وعبدالرحمن بن هرمز التابعي. وفي خلال العصر الأيوبى بدأ تراكم التل بعد انتهاء استخدام المنطقة كمقابر. 

وخلال العصر المملوكي، كان هناك برج أعلى هذا التل، وكان مُقامًا على أساس غير متين. وكان يستخدم في مراقبة البحر بعد أن انتهت المراقبة عن طريق منارة الإسكندرية القديمة. وظل البرج قائمًا حتى العصر العثماني. وداخل البرج المقام الآن، توجد السلالم الداخلية التي تؤدي إلى أعلى البرج، والسلالم تتيح صعود شخص واحد عليها، ويوجد داخلها قناديل للإنارة.

قطع أثرية متروكة في العراء في كوم الناضورة

وفي عهد الحملة الفرنسية بُنيت طابية أعلى البرج، عُرفت باسم طابية كافاريللي، نسبة الى أحد قادة نابليون الذين أشرفوا على الأعمال الهندسية. وفي عصر محمد علي، جُددت المنطقة ورممت، وأنشئ بها برج مثمن الشكل، استخدم لمراقبة البحر وتحركات السفن. وفي العصر الحديث، تحديدًا في عام 1926، تم بناء برج مثمن مكان البرج القديم بعد تهدمه، كما بنيت ثكنة للمأمور الإنجليزي وأسرته، كما بنيت ثكنة للمأمور المصري في وقتٍ أحدث نسبيًا. وكلاهما لايزالان موجودين حتى الآن.

وعانى المكان الكثير من التعدّيات التي قلصت مساحته، على الرغم من احتوائه على آثار تعود إلى عصورمختلفة. وفي الثمانينات كان هناك اقتراح من أحد نواب مجلس الشعب، أن يُهدم المكان بأكمله ويعاد بناؤه كمساكن لذوي الدخل المحدود. غير أن هيئة الآثار اعترضت على ذلك حينها، وبقي المكان على حاله، رغم جملة التعديات التي تقضم من مساحته.

مكان إقامة المأمور الإنجليزي سابقًا في كوم الناضورة

كان في المكان حتى وقت قريب مدفع يستخدم للإعلان عن موعد الفطور في رمضان قبل أن يتم الاستغناء عن خدماته لصالح المدافع الموجودة في منطقة "بحري" .

تعود تسمية كوم الناضورة للعصر العثماني في مصر، ويقال إنها جاءت من وظيفة "الناضورجي" أو المُراقب

والآن كثير من السكندريين لا يعرف ما هو كوم الناضورة، ولا أين يقع في مدينتهم. وفي رحلتنا للمنطقة، رصدنا اندهاشًا غريبًا من أهل المكان، أن هناك من يبحث عن المكان ويحاول اكتشاف ملامحه، ما يلقي الضوء على الإهمال الذي تعيشه المنطقة رغم ثرائها التاريخي وزخمها الإنساني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في مصر.. أسماء قرى أغرب من "ميت البز"

الإسكندرية.. استراحة المحارب والعاشق