13-نوفمبر-2020

وائل السلطان

يثير الغموض الذي يكتسي بعض المفاهيم حماسًا كبيرًا مما يجعلها عرضة للبحث الدائم، وكذلك الفضول والجدل. ذلك أن الغموض هو صفة تحوي ضمنيًا أسئلة لا تنتهي إلا عند زوال أسباب السؤال، بمعنى أن الإجابة لن تكون قطعية، إنما اقتراحية اشكالية تتحمل النقض والنقد. مفهوم الشعرية واحد من هذه المفاهيم العصية كونها مثار جدل غير منتهي حول المحددات المعيارية. يقول جاكوبسون بأن الشعرية "هي ما يجعل رسالة لفظية أثرًا فنيًا"، وهذا التعريف هو كما ذكرت غير حاسم، لكون المحددات الشعرية هي متغيرات وليست ثوابت. تمنحنا إشارة جاكوبسون من خلال تعريفة طرف خيط يسهل علينا عملية رصد المحددات.

يثير الغموض الذي يكتسي بعض المفاهيم حماسًا كبيرًا مما يجعلها عرضة للبحث الدائم، وكذلك الفضول والجدل

في مجموعة وائل السلطان "التحليل النفسي للوردة" (حائزة على جائزة دار الرافدين للكتاب الأول، نُشرت في بيروت 2019) تغمرنا المحددات الشعرية من العتبة الأولى للكتاب، واحدة من هذه المحددات هي الانتباه. انتباه الشاعر ذو حمولة عاطفية تنسحب إلى الهامش أكثر، لأن "الوردة" هي وحدة مركزية في الرمزيات الجمالية، لها حضور واضح في الاشتعال الشعري عمومًا، لكن المفارقة التي يخلقها الشاعر هنا هي محدد اول للشعرية، أنه ليس انتباه لفيزيقية الوردة كما المعتاد بل للحالة السيكولوجية لهذا العنصر الطبيعي الأخاذ.

اقرأ/ي أيضًا: مقدمة كتاب "الكتابة بالقَفْز والوَثْب".. حاضر متحرِّك

ولكون الشاعر ابن بيئة طبيعية -ريفية- نرى حضور مثل هذه العناصر جليًا في نصوصه لكن مع سردية جديدة تنتمي لتجربته وتنطلق منها، فلا تنحسر في الأبعاد التي تجعلها نسخة من إرث جمالي ساهم في تكوينه. إنه يقف في ليل الحديقة وقفة مفارق يحفظ لها عطاءها معلنًا عنه ككسب تراكمي مع محاولة لتجاوز الأثر المكاني حتى يضمن خصوصيته التي تجعله طامحًا إلى الأبعد:

"أتقاسمُ مع الحديقةِ بهجة الصبحِ وحكمة الليل

وصبرها على الدنيا التي تتغيرُ

أسرعَ من نظرة الشاعر العاطفي

مثلها مختنقٌ بالمسافة التي لا أجتازها بالكلمات، بالطريق التي لا ظل لها

وبالحياة التي تنمو في الظل مثلَ عشبةٍ مضرّة.

وبها أطردُ صورتي من خيالي

وأحاول الهربَ، هذا المساء".

تتعدد المحددات الشعرية بوصفها متغيرات دائمة تتحدى الحصر، وتنكشف بأكثر من صورة، في القصائد الأربعة "حين كنت بعيدة" و"الجميلة" و"نشيد الحاجة" و"اعتذار"، وبترتيبهن المقصود يرفع الشاعر عتبَه عن الصفة العاطفية، ويعود لها كونها تشكيلًا أساسيًا في الكتلة الشعرية التي يقدمها كمجموعة أولى، تعلن عن قلق البدايات الذي يمتزج بمرح المغامرة كتأكيد معياري على خلق الأثر الفني كنموذج متنوع. هذا النموذج يحمل من التنوع إمكانات أسلوبية تعود في أصلها إلى منظومة رمزيات واحدة، مثل شجرة بفروع عديدة. حيث الأدوات التركيبية للتشبيهات كلاسيكية مكرورة، تتعدد التشبيهات مع إحالة متكررة دائمًا تمثل الأصل: "أحبك، مثلما يحب الله الفلاحين والحصاد" من نص "نشيد الحاجة"، وفي نص "جذاذت شاعر": "وأنت تلمعين مثل الندى في قريتي".

أعلاه إحالتان إلى أصل واحد من فروع متقاربة. ثم يفاجأنا حين يسجل إحالة بتركيب آخر، يعزز التنوع، إلى أصل هو نفسه الأصل الأول مع صفة كانت مضمرة فيما سبق: "أشتاقُ للوقتِ، للضحكة السافرة، للحبّ في المدنِ المقدسة".

هنا إحالة غير تشبيهية تحمل بيان عن استفهام ينشأ مع ملاحظة تكرار موضوعة "الموعد العاطفي" أكثر من مرة في المجموعة، وهنا تتحقق الخصوصية المنشودة لتجاوز الإرث الشعري الذي ينتمي إليه الشاعر مكانيا ويقولها صراحة في نص "أنا أيضًا يا بول إيلوار":

"وتعلّمني الظهيرةُ أنْ أكبرَ مبتعدًا عن مقاهي الآخرين،

المحتشدة بالحروب والخيانات العقيمة

أنا أيضًا أكتبُ قصائد حبٍّ، لامرأةٍ لم تسمح لك الصدفةُ

أنْ تثرثرَ باسمها، أو تصفَ ارتعاشة الحبّ على شفتيها"..

هذي الخصوصية تنطوي على جرأة في تشخيص المقدس كمشكلة حاضرة تمثل مطية لبلوغ الشر. والجرأة نفسها لا تتعارض مع خوف يكشف عنه الشاعر في نص "عالم مألوف": "خائف من الرب الذي يرسل تهديده".

تغمرنا المحددات الشعرية من العتبة الأولى في مجموعة وائل السلطان "التحليل النفسي للوردة"، واحدة من هذه المحددات هي الانتباه

إذًا، الخطاب في إحدى درجاته يحمل همًا أكبر مما تظهره النصوص في حيزها الكلامي/اللساني، لأن التأثير المكاني تصل مدياته إلى درجة تؤثث المأساة بجوٍ من القبول يجعلها مجرد ذكرى حزينة او تجربة فاشلة، بينما تنمو لحظات من الفرح البسيط بصعوبة وهي تصطدم بما يعثرها دائمًا:

"حينِ ولدتِ كانتْ الأرضُ حربًا طويلةً،

فصَمتَ الجميعُ – لحظةً – وهم ينظرونَ إلى الطيرِ

الذي يعبرُ فوقَ الدماء وينشرُ ظلّهُ."

اقرأ/ي أيضًا: رياض الصالح الحسين.. اللغة كمعادل وحيد للحياة

قدمت هذه المجموعة تمثيلين للشعرية، التمثيل الأول هو كشف المحددات الشعرية التي أشار جاكوبسون إلى رصدها كمؤثر مهم في خلق الأثر الفني. والتمثيل الثاني كان من خلال تنوع هذه المحددات في أجواء المجموعة رغم انتمائها إلى منظومة أدبية داخلية تلغي الفجوة بين الشعرية واللسانيات، فنصوص المجموعة بشكل عام هي رسائل خطابية تحمل نفسا إخباريًا اجتهد من أجل تحقيق الشعرية التي تجعل الإبداع إبداعًا وليس حياة خاصة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

5 مجموعات أساسية في تاريخ قصيدة النثر العربية

في الشعر كما في القهوة