09-سبتمبر-2019

هناك أسباب عديدة وراء صفقة تبادل السجناء الروسية مع أوكرانيا (أ.ف.ب)

أبرمت روسيا وأوكرانيا نهاية الأسبوع الفائت صفقة لتبادل السجناء والأسرى بينهما بعد إجرائهما مفاوضات مطولة لإتمامها، ما يدل على أنها خطوة في إطار تحسين العلاقات الدبلوماسية المتدهورة بين البلدين منذ قرابة خمسة أعوام، إلا أن هذه الخطوة فيما يبدو تظهر محاولة الكرملين إعادة ترتيب أوراقه على مختلف الأصعدة بما يتوافق مع رؤية سياسته الداخلية والخارجية.

ساهمت الأزمة الأوكرانية بتدهور الوضع الاقتصادي للكرملين نتيجة فرض الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية على موسكو منذ نهاية عام 2014 بسبب ضمها شبة جزيرة القرم

موسكو وكييف تكسران الجمود الدبلوماسي  

أجرت موسكو وكييف يوم السبت الفائت عملية تبادل للأسرى شملت 35 سجينًا وأسيرًا من كل طرف، وفي وقت متقارب هبطت طائرتان في موسكو وكييف قادمتين من البلدين تقلان الأسرى الـ35 لكل طرف، في خطوة وصفها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأنها بداية "لإنهاء هذه الحرب البشعة"، فيما اعتبرت الخارجية الروسية أن صفقة التبادل "مؤشر إيجابي ينبغي أن تتبعه خطوات مهمة أخرى لكسر جمود الموقف الحالي" في العلاقات المتوترة بين البلدين.

اقرأ/ي أيضًا: هل تعزل موسكو نفسها دوليًا؟

واحتجزت موسكو في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي 24 بحارًا كانوا ضمن مجموعة سفن أوكرانية أبحروا من ميناء أوديسا على البحر الأسود إلى ميناء ماريوبول على بحر آزوف عبر مضيق كيرتش الذي يمثل معبرًا وحيدًا لبحر آزوف الذي تتقاسمه الدولتان، واستولت موسكو بعد حشدها أربع طائرات حربية على السفن الأوكرانية بذريعة دخولها بشكل غير قانوني إلى المياه الروسية، ما اعتبر خرقًا للاتفاق الموقع بين البلدين عام 2004 القاضي بتعريف بحر آزوف بأنه مياه داخلية لكلا البلدين، ومنح بموجب الاتفاق حرية الملاحة لجميع السفن الأوكرانية والروسية.

وتصاعدت الأزمة بين الدولتين الجارتين منذ آذار/مارس 2014 عندما أعلنت موسكو ضم شبه جزيرة القرم لأراضيها، وقام الكرملين بتشجيع الانفصاليين الأوكرانيين بمنحهم الدعم العسكري في مناطق دونيتسك وهانسك شرق أوكرانيا، ما أودى بحياة ما لا يقل عن 13 ألف شخص جراء الاقتتال بين الانفصاليين والقوات الحكومية الأوكرانية، والمنطقتان التي يطالب الانفصاليون بمنحهما حكمًا ذاتيًا يقع ضمنهما ميناءا بيرديانسك وماريوبول الأوكرانيين الحيويان حيثُ يجري عبرهما تصدير الحبوب والصلب واستيراد الفحم، وبات ميناء أوديسا الميناء البحري الوحيد لكييف من أصل ثلاثة.

 لماذا أرادت موسكو إبرام الصفقة في هذا الوقت؟

جاءت عملية تبادل السجناء والأسرى بين موسكو وكييف قبل يوم واحد من توجه الناخبين الروس للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات المحلية في عموم الأقاليم الروسية، وبحسب نتائج الفرز الأولية للأصوات التي تجاوزت 95.5 بالمائة، حتى لحظة إعداد التقرير، فقد تمكنت المعارضة الروسية من الحصول على 20 دائرة من أصل 45 دائرة فردية في مجلس مدينة موسكو بعدما كان الموالون للكرملين يشغلون 38 مقعدًا.

ويمكن القول هنا إن الكرملين كان يحاول أن يؤثر على قرار الناخب الروسي في الانتخابات المحلية من خلال إتمام صفقة التبادل المبرمة مع كييف، إلا أنها لا تعد النقطة الأساسية في إتمام الصفقة، لكنها تدخل في إطار مجموعة من النقاط يأتي ضمنها إنجاز عملية التبادل التي بقيت مفاوضاتها فترة طويلة من الزمن، لذلك فإن توقيت تنفيذها لا يمكن إدراجه ضمن خانة المصادفة بل يمكن التأكيد أن التوقيت كان مدروسًا مع أخذ باقي النقاط في عين الاعتبار.

وفيما تظهر نتائج الفرز الأولية للأصوات أن صفقة التبادل لم تؤثر على قرار الناخب الروسي في عملية الاقتراع، فإنها كذلك (نتائج الفرز) تؤكد على صحة استطلاعات الرأي التي أجريت مؤخرًا مظهرًة تراجع شعبية بوتين لأدنى مستوى لها منذ عام 2006 بنسبة وصلت 32.2 بالمائة، نتيجة تباطؤ النمو الاقتصادي بسبب العقوبات الأمريكية والغربية المفروضة على موسكو، فضلًا عن قرارات الحكومة الروسية العام الماضي التي نصت على رفع سن التقاعد حتى 65 عامًا للرجال و63 عامًا للنساء، وزيادة ضريبة القيمة المضافة لتصبح 20 بالمئة بدلًا عن 18 بالمئة.

المزيد حول الأسباب التي دفعت موسكو لإبرام الصفقة

إذا تجاوزنا مسألة الانتخابات المحلية كونها واحدة من مجموعة نقاط يمكن قراءتها في إبرام موسكو لصفقة تبادل الأسرى والسجناء مع كييف، فإن الصفقة تأخذ بعدًا في أزمتها مع أوكرانيا أو محليًا أو في إطار الخلاف مع الدول الأوروبية، نظرًا لسعي الكرملين من ورائها لإعادة ترتيب أوراقه بالتخلص من أزمة انفصاليي شرق أوكرانيا بهدف تقرّبه أكثر من مجلس أوروبا.

  • على الصعيد المحلي

ساهمت الأزمة الأوكرانية بتدهور الوضع الاقتصادي للكرملين نتيجة فرض الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية على موسكو منذ نهاية عام 2014 بسبب ضمها شبة جزيرة القرم، ودعمها للانفصاليين الأوكرانيين كما هو معروف، فقد شهدت موسكو خلال الشهرين الماضيين عودة المعارضة الروسية للتظاهر ما أسفر عن اعتقال المئات من المعارضين، إلا أن هذه الاعتقالات لم تساهم بالتأثير على قرار الناخب الروسي في الانتخابات المحلية التي حققت المعارضة تقدمًا في نتائجها حسب الفرز الأولي للأصوات، وهو ما يمكن اعتباره ضربة للكرملين يضعه في موقف مشابه لحزب العدالة والتنمية التركي الذي خسر في انتخابات مماثلة العاصمة الاقتصادية إسطنبول، ويدل في الوقت عينه على تراجع شعبية الكرملين محليًا.

وهنا تنصب آمال الكرملين على مساعدة التقارب مع دول الاتحاد الأوروبي بتخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو ما يخفف من آثار العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، بعدما أشار محللون اقتصاديون بداية العام الجاري إلى أن فرض عقوبات أمريكية على عدد من الشركات الروسية الكبرى في نيسان/أبريل العام الفائت، وانسحاب المستثمرين من الأسواق الصاعدة وسط تشديد السياسات النقدية في الدول المتقدمة والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، ساهمت بشكل أو بآخر بتراجع سعر صرف الروبل الروسي مقابل الدولار واليورو.

كما أنها أظهرت في الوقت عينه هشاشة النمو الاقتصادي الروسي الذي يعتمد على سوق المواد الخام، إذ ارتفع معدل التضخم إلى نحو 4.2 - 4.3 بالمائة عام 2018 قابلة للازدياد إلى 6 بالمئة خلال العام الجاري نتيجة لرفع ضريبة القيمة المضافة من 18 إلى 20 بالمئة، فيما ارتفع معدل البطالة في روسيا إلى 5.2 بالمئة، وطاول الفقر قرابة 19 مليون مواطن في عموم أنحاء روسيا.

لذلك يحاول بوتين – المعروف عنه أنه من أكثر رؤساء العالم استبدادًا –  من خلال هذه الصفقة إقناع الأوروبيين بتخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على الكرملين، دون أن يتخلى عن إبقاء أوكرانيا ضمن نفوذ موسكو، بما يتوافق مع رؤيته للقومية الروسية واستعادة نفوذ الاتحاد السوفييتي، وفي حال استطاع الحصول على مجموعة من القرارات التي قد تخفف من العقوبات الاقتصادية المفروضة على الكرملين، فإن ذلك يعني قفزًة للاقتصاد الروسي من الممكن أن تساعده على استعادة جزء من شعبيته التي فقدها في الانتخابات المحلية الأخيرة.

  • الأزمة الأوكرانية

ترمي موسكو من وراء إبرامها الصفقة فتح طريق للحوار مع إدارة الرئيس الأوكراني زيلينسكي الذي أعرب في أكثر من مناسبة عن رغبته بوضع نهاية للأزمة الأوكرانية – الروسية، واشتراطه تنفيذ صفقة تبادل الأسرى مقابل الجلوس على طاولة الحوار مع موسكو، بالأخص بعد أن حظيت الصفقة بدعم أمريكي – فرنسي مشترك انعكس في تصريحات مسؤولي البلدين، كما أن الممثل الكوميدي الذي وصل للرئاسة مؤخرًا يبحث عن أول إنجاز سياسي يحققه في فترة ولايته.

ويعطي إتمام صفقة التبادل دفعًة قويًة للقمة المتوقع إجراؤها الشهر الجاري بين مسؤولين روس وأوكرانيين بوساطة ألمانية – فرنسية لمناقشة الأزمة الأوكرانية، والتي من المتوقع أن تدور في إطار اتفاقيتي مينسك. وتنص الاتفاقتين على استعادة الحكومة الأوكرانية السيطرة على الحدود في منطقتي النزاع مع الانفصاليين الأوكران (دونيتسك ولوغانسك)، وإجراء كييف لإصلاح دستوري يقضي بمنح صفة خاصة ودرجة عالية من الاستقلالية يقضي باللامركزية، وهو ما يمكن اعتباره نصرًا دبلوماسيًا للكرملين  يسوغ لها قانونيًا تطبيع العلاقات مع الانفصاليين الأوكرانيين.

ولا يمكن في الوقت عينه تجاهل توجهات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمراجعة برنامج المساعدات العسكرية المقدمة من واشنطن لكييف بقيمة 250 مليون دولار، معللًا ذلك برغبته معرفة أنها تنفق بطريقة تخدم المصالح الأمريكية على أحسن وجه، بحسب ما نقل موقع بوليتيكو الأمريكي عن مسؤول في الإدارة الأمريكية، وهو ما ينعكس على تصريحات ترامب المتكررة التي قللت من التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا.  

كما أن موسكو تمكنت عبر صفقة التبادل من استعادة فولوديمير تسيماخ المعروف عنه قيادة الدفاعات الجوية للانفصاليين الأوكرانيين، فيما يبدو أن الإفراج عنه جاء مقابل إفراج موسكو عن المخرج الأوكراني أوليغ سينتسوف المحكوم بالحبس 20 عامًا في موسكو بتهمة التآمر لتنفيذ أعمال إرهابية في شبه جزيرة القرم، ما قد يجنب تصاعد الأزمة مع الدول الأوروبية في حال خضع تسيماخ للاستجواب مرًة ثانية.

ورغم أن المحققين الدوليين لا يشتبهون بضلوع تسيماخ بحادثة إسقاط طائرة الخطوط الجوية الماليزية MH17 عام 2014 بصاروخ من طراز بوك فوق شرق أوكرانيا، فإنهم يريدون بقاءه في كييف لطرح المزيد من الأسئلة عليه، حيثُ طالب المحققون بعد السماح له بالسفر إلى روسيا، ويثير اهتمام موسكو المتزايد بالإفراج عن مواطن أوكراني الكثير من الشكوك حول المعلومات المتوفرة لديه، ما دفع الكرملين للمطالبة به لتجنيبه الاستجواب مجددًا.

  • الدول الأوروبية

ويريد الكرملين على الصعيد الأوروبي أن يعيد بشكل تدريجي جسور بناء الثقة مع دول الاتحاد الأوروبي لكن بشكل حذر، ولا يتعارض مع استراتيجيته التوسعية على الساحة العالمية، فهو يحاول استثمار عودة النواب الروس لمقاعدهم في الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا في حزيران/يونيو الماضي، إذ بعد غياب استمر لخمسة أعوام شارك النواب الروس في انتخاب الأمين العام الجديد لمجلس أوروبا في الشهر عينه.

ورافقت عودة موسكو للمجلس الأوروبي سلسلة خطوات خففت من حدة الخطاب الأوروبي العدائي اتجاه الكرملين، وهو ما ظهر في تصريحات متعاقبة منذ التحضيرات لقمة مجموعة السبع التي استضافتها مدينة بياريتس الفرنسية، بدأت بإعلان ترامب احتمال دعوة نظيره الروسي فلاديمير بوتين لحضور القمة المقبلة للمجموعة عام 2020 في الولايات المتحدة، ورغم عدم توصل باريس وبرلين لقرار بهذا الخصوص إلا أن دعوة بوتين تتوقف على النتائج التي من الممكن أن يتوصل إليها مع باريس وبرلين خلال القمة المزمع عقدها لبحث الأزمة الأوكرانية.

ويبدو أن باريس تريد أن تلعب دورًا في إنهاء ملف الأزمة الأوكرانية على غرار الجهود التي تقودها لتخفيف التوتر المتصاعد بين واشنطن وطهران في منطقة الشرق الأوسط، فقد أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في وقت سابق أن دفع روسيا بعيدًا عن أوروبا "يعد خطأ إستراتيجيا عميقًا"، لأنه يدفعها إما إلى "العزلة التي تزيد من التوترات أو للتحالف مع قوى أخرى مثل الصين"، لذا فإن أوروبا لن تكون "مستقرة وآمنة أبدًا إذا لم تحسن علاقتها مع روسيا".

أقرأ/ي أيضًا: "روسيا اليوم".. صناعة الوهم البوتيني

ولا يمكن القول إن باريس وحدها تحاول التوصل لحل ينهي الأزمة الأوكرانية، إذ ظهرت بوادر وعود بتخفيف حزمة العقوبات الاقتصادية الأوروبية المفروضة على الكرملين في حال توصل الأخير مع كييف لاتفاق ينهي الأزمة بين البلدين، وهو ما شدد عليه وزير الخارجية هايكو ماس حينما أشار إلى أنه طالما الأزمة الأوكرانية لا تزال بين موسكو وكييف "سيكون من الصعب الحديث عن وضع العقوبات الاقتصادية الأوروبية".

بحسب نتائج الفرز الأولية للأصوات التي تجاوزت 95.5 بالمئة، حتى لحظة إعداد التقرير، فقد تمكنت المعارضة الروسية من الحصول على 20 دائرة من أصل 45 دائرة فردية في مجلس مدينة موسكو

على الطرف الآخر ترغب دول الاتحاد الأوروبي عبر إعادة الحوار مع روسيا أن تكون مستعدًة لأي سيناريو قد يحدث انفراجًا في الخلاف الأمريكي – الروسي على الصعيد الدولي، بالأخص أن الإدارة الأمريكية الحالية تعمل من جانب أحادي في إطار إدارتها للصراعات والملفات الدولية، مثل ما حصل مع الاتفاق النووي الإيراني واتفاقية المناخ، وهو ما يعكس خوفها من تراجع واشنطن عن التزاماتها أمام حلف الناتو، حيثُ تقدر ميزانية واشنطن الدفاعية في الحلف بأكثر من 50 بالمئة من الإنفاق العالمي للدول الأعضاء ما يجعلها هدفًا سهلًا لقوة الكرملين العسكرية.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

 بالنسبة لروسيا.. سوريا ليست أوكرانيا

من الكوميديا إلى رئاسة أوكرانيا.. هل ينجح زيلينسكي؟